للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الحديث ذو شجون]

للدكتور زكي مبارك

حرية الرأي في القديم والحديث - التضامن الأدبي - المال والبنون - الباقيات الصالحات من الشمائل الإنسانية - لا تنزعجوا - تهديد طريف!

حرية الرأي

كنت قلت: إن الناس في عصر الظلمات كانوا يجهرون بآراء لا نستطيع روايتها في هذا الجيل، فهل يكون معنى ذلك أن القدماء كانوا أشجع؟ وهل يكون معناه أنهم كانوا أبصر بمذاهب النفوس، وأقدر على تصريف الآراء؟

الواقع أن أرباب الفكر في هذا العصر أكثر نفاذاً إلى الدقائق، وأعرف بشؤون المجتمع، وأهدى إلى أسرار المشكلات والمعضلات، بفضل ما أتيح لهم من وسائل الفهم والإدراك

فكيف يتفق أن يكون المحصول الفكري في هذا الجيل أقل من أمثاله فيما سلف من الأجيال؟ أو كيف جاز أن يمرّ محصولنا الفكري بدون ضجيج يوقظ غافيات العقول؟

يرجع السبب فيما أرجَّح إلى ظاهرتين تتصل أولاهما بالقارئ وتتصل الثانية بالكاتب، وفي تفصيل ذلك أقول:

كان القراء قديماً من الخواصّ، أو خواصّ الخواصّ، بسبب شيوع الأمية، وبسبب غلاء المؤلفات، أو ندرتها في بعض الأحايين، فقد قضى ابن خلدون عمره وهو يتشوف إلى الاطلاع على جزء من كتاب الأغاني، ولعله مات قبل أن يظفر بما يريد. وحدثنا صاحب (الطراز) أنه عجز كل العجز عن الوصول إلى مؤلفات عبد القاهر الجرجاني في البلاغة، مع أنه كان على جانب من الغنى والجاه، وعلى اتصال بجماعة من الأمراء في مختلف الحواضر الإسلامية وعرفنا فيما قرأنا أن بعض الباحثين كان يقصد مناسك الحج لينادي علناً في عرفات عن رغبته في اقتناء كتاب لم يستطع الوصول إليه برغم ما بذل في سبيله من عناء

هذا يؤكد أن القراء قديماً كانوا من الخواص، أو خواص الخواص، وذلك هو السر في عدم تهيُّب المفكرين من إعلان ما يجول بصدورهم من آراء وأهواء، فقد كان المفكر يحادث قراءه كما يحادث أصفياءه، لثقته بأنهم فئة ممتازة تفهم عنه ما يريد بلا تزيد ولا تحريف،

<<  <  ج:
ص:  >  >>