وذلك أيضاً هو السر في أن تعابير القدماء تغلب عليها الصراحة، ويَسود فيها الصدق، وقد تُوصَم بالعُرْي في بعض الأحيان
ولا كذلك القراء في هذا العصر، فهم يُعدّون بالألوف وألوف الألوف، فمن العسير أن يكونوا جميعاً من الخواص، وربما جاز القول بأن جمهرتهم من العوامّ، أو عوامّ الخواصْ، وهذه الحال تفرض على المفكر أن يحتاط في عرض ما يجول بصدره من آراء وأهواء، وذلك هو السبب في تعابير أهل العصر تعوزها الصراحة، ويقل فيها الصدق، ولا تخرج سافرة أو عارية، كبعض تعابير القدماء، وإنما تخرج ملفوفة في أثواب من الرمز والإيماء والتلميح، إن لم يحملها الإسراف في حب السلامة على التدثر بأثواب من المداهنة والمصانعة والرياء
فإن رأيتم جماعة من المفكرين يدورون حول أغراضهم في تردد وتهيب وإشفاق فاعرفوا أنهم يصانعون قراءهم (الألباء) واذكروا أنهم لا يملكون من حرية التعبير غير أطياف، وإن قيل وقيل بأنهم يعيشون في القرن العشرين!
وهل كان التفاوت بين طبقات القراء هو كل ما يعوق الفكر في هذا الجيل؟
هنا يجئ القول بالفرق بين حال الكاتب في هذا العصر وحال الكاتب في العصور الماضية
فالكاتب قديماً كان في أغلب أحواله رجلاً قليل التأثر بضجيج المجتمع، لأن آراءه لم تكن تصل إلا إلى جمهور ضئيل يُعد أفراده بالعشرات أو بالمئات، ولأنه لم يكن يفكر إلا قليلاً في التطلع إلى المناصب التي تفتقر إلى ثقة المجتمع؛ فأكثر المفكرين القدماء لم يكونوا رجال سياسة ولا رجال أعمال، فقد كان فيهم جماعات يعيشون في عزلة رهبانية ولا يهمهم غير التعبير عن أغراضهم بحرية وصراحة وجلاء، ولم يتعرض منهم للأذى والقتل غير من طاب لهم أن يواجهوا مشكلات السياسة أو معضلات الدين
أما الكاتب هذه الأيام فله حال وأحوال
هو أولاً رجل يخاطب الألوف وألوف الألوف، وفيهم أذكياء وأغبياء وأعداء وأصدقاء، وهو عن مراعاة أهوائهم مسئول وهو ثانياً رجل يهمه أن يتمتع بحقوقه المدنية، وقد يتسامى إلى كبار المناصب، وذلك يوجب الحرص على مسالمة المجتمع في أكثر الشؤون
الكاتب في هذه الأيام يعرف جيداً أنه يعيش تحت رقابة عنيفة من الدولة ومن المجتمع،