قتل كليب فعمت الملأ فتنة عمياء، وهبت عليهم عاصفة هوجاء، ونزع الشيطان بين العشيرتين
هنا قلوب تقطر حزناً، وحزناً يدفع إلى اليأس وإلى الموت، وهنا نفوس تتواثب إلى الانتقام، وتستعذب في سبيله الحمام. وهناك قلوب تجب من هول ما أقدمت عليه، وتستشعر الندم لمقتل كليب، تهمس به في غسق الليل، وتخفيه نهاراً، ضنا بالكرامة وأنفة واستكباراً، وهناك فتية يحترقون للقتال، ولكن لا يثقون بنصرة الرجال، ويخشون أن يتخاذل النصراء عند نزول الخطب ويستخذي الرجال عند اشتداد الكرب، وبين هؤلاء وهؤلاء كهول وشيوخ يسيرون في الليلة الظلماء على قبس الحكمة ونور الأناة، ويتابعون السير في مدلهم الحوادث، يبتغون مخرجاً من الكوارث. فعقدوا عن الحرب في صمت ووجوم، ولم يعينوا ظالماً على مظلوم، ومن هاماتهم الفند الزماني، والحرث بن عباد فارس النعامة
ولكن طغت على القوم ثورة الغضب. وانساقوا إلى الحرب ورداً يؤزهم الشيطان أزّا
ولم يطلب لبني شيبان المقام بأرض فيها مذلة، ولهم فيها ذلة، فارتحلوا ونزلوا (بماء النهى) ولحقت جليلة بأبيها مرة ابن ذهل. وعلى رأس بني شيبان الحرث بن مرة أخو جساس وعلى رأس بني ثعلب المهلهل بن ربيعة أخو كليب واستحر القتال بينهم بماء النهى ودارت الدائرة على بني شيبان، وكانت الغلبة لتغلب؛
ولما أصبح القوم على مدرجة من سيل الحوادث، قال قائل منهم:
(هلموا إلى الكهنة نستلهمهم الصواب، علهم يكشفون الكرب أو يحجبون البلاء) وقال آخر: (ما للكهنة وهذه الكروب؟ إنما يلوون ألسنتهم بالقول كأنما نزل عليهم من السماء، فان تدبرت في قولهم لم تفهم منه شيئاً محدوداً، ولا رأياً مقصوداً، وإن فهمت فقد تفهم من القول معنيين لا تدري أيهما تأخذ وأيهما تدع.)