العصر الذي نعيش فيه عصر قوامه النقد. حتى لقد قال (إدورد كيرد) وهو من الفلاسفة المعاصرين في أول كتابه عن فلسفة كَنْت: إن النقد هو الذي هدَّ العروش المقدسة، ومنها عرش الدين قائماً من فوق العقيدة، وعرش القانون قائماً من فوق السلطان والجبروت. فإذا عني أعلام كتابنا بالنقد، فإنما يعنون بشيء قد تغلغل في صميم الحياة الحديثة، ونفذ إلى أبعد غور من أغوار الأشياء الإنسانية. وما حفزهم إلى الكلام في النقد، وفي النقد الأدبي على الأخص، إلا شعورهم - وقد ركدت حركة النقد - بأن في الجو الأدبي فراغاً جعلهم يستوحشون من الحياة التي يحيونها، وجعلهم يعتقدون شيئاً آنسوا فيه الحياة ألفوها. على أني لحظت في نزعة الكتاب الذين عالجوا هذا الموضوع شيئاً أو أشياء، على كبير علاقتها بالنقد الأدبي، وعلى عظيم خطرها، لم يعرض لها أعلام كتابنا ولو بإشارة، ومن طرف خفي، كأن الكلام في هذه الأشياء عسير على النقد أو هي من الأشياء التي يجب أن تخرج من مجال النقد، وكانت هذه الظاهرة فيما كتبوا بنية جلية، حتى لقد خيل إليَّ أن ما كتب في النقد جدير بأن ينقد، وخليق بأن يحلل تحليلاً لا هوادة فيه
سألت نفسي: أناحية النقد الأدبي وحدها هي الجديرة بالتقدير والوزن، أم إن ناحية النقد العلمي والفلسفي لها من المكانة والشرف ما يجعلها خليقة بأن تساوي النقد الأدبي قيمة ووزناً؟ ولم نخص النقد الأدبي وحده بقسط من العناية يستوفي كل جهودنا العقلية، ولا ننظر ولو التفاتاً وبقليل من الاكتراث إلى النقد العلمي والفلسفي؟ ألأنَّ الأدباء كثيرون، والعلماء والفلاسفة قليلون؟ كلا وإنما السبب أن عقليتنا لم تتكون بعد التكون العلمي ولا التكون الفلسفي. وهذا التكون سابقة ينبغي أن تسبق في الحياة العقلية ظاهرة النقد، في مجال ما من مجالات الحياة الثقافية. ذلك بأن وجود العلماء لا يكفي في تكوين العقلية العلمية، ولا وجود الفلاسفة بكافِ لتكوين العقلية الفلسفية
ثم سألت نفسي: أللنقد موانع؟ أيمنعنا من النقد عوامل خلقية؟ أيمنعنا من النقد عوامل تقليدية؟ أيمنعنا من النقد عوامل اقتصادية؟ أيمنعنا من النقد عوامل سياسية؟ أيمنعنا من النقد عوامل نفسية؟ وهل يمكن أن يفلت النقد من أثر هذه العوامل؟ وبعد أن أطلت النظر