في كل سؤال من هذه الأسئلة، بل إن شئت فقل في كل معضلة من هذه المعضلات، حكمت بأن هذه الموانع كائنة، وأن بعضها أقوى أثراً من بعض، وأن الناقد لن يفلت من دائرتها، أو يخرج من أقطار هذه الأرض منبوذاً مدحوراَ
وبعد هذا وذاك هل وضعنا للنقد قواعد يقوم عليها هيكله، وتشيد من فوقها أركانه؟ ألَنا في النقد مذاهب مقررة ينتحيها الناقدون؟ وهل لنا في النقد قواعد تحدد للنقد حدوده، وترسم تخومه، وتعين اصطلاحاته، شأن كل الأشياء العلمية والأدبية التي لها أثر في تطور العقليات والمعقولات؟
كلا. ليس لنا في النقد مذاهب، وإنما اتبعنا إلى الآن في النقد طريقة ميزانها الذوق والشعور، وهي طريقة إن مال ميزانها نحو اليمين قيد شعرة كانت إفراطاً في المدح والتقريظ، وإن مالت نحو الشمال شعرة كانت تفريطاً في كل ما يقتضي النقد من حكمة في تقويم الآثار الأدبية بميزان صادق الدلالة على قيمة ما في كفتيه. وجملة الأمر أننا ذهبنا في النقد المذهب التقديري، ولم ننزع إلى المذهب التقريري. ذلك بأن المذهب التقديري مذهب سهل المأخذ، لير المنحى، مطواع للأهواء، يسع الأثر الذي تمليه الصداقة على شعور الناقد، ويسع الأثر الذي تمليه العداوة والبغضاء على انفعالاته. وهو فوق كل هذا مذهب بُدائي لا ضوابط له ولا قواعد، ولا نظريات ولا حقائق؛ وبالأحرى نقول إننا مضينا ننقد حتى الآن ورائدنا في النقد الأثر الذي تتركه في أنفسنا مختلف المنتوجات الأدبية، بما فيها من علاقات ذاتية وميول وعواطف وأخيلة وأحاسيس؛ وعلى الضد من هذا كله مذهب النقد التقريري القائم على نظريات أو حقائق لها حدود مضبوطة ومصطلحات معينة ونماذج يمكن أن ينسج على منوالها؛ ناهيك بأن مذهب النقد التقريري قد تكون له في بعض الأحيان فكرة عامة شاملة ترمي إلى غاية معينة. فانك إن نظرت مثلاً في محاورات سقراط التي أثبتها تلاميذه في كتبهم، تبينت من خلالها فكرة جامعة وغاية أخيرة ترمي إليها، هي التي أبان عنها كل الإبانة في دفاعه عن نفسه أمام قضاته قبل الفتوى بإدانته. وعندي أن محاورات سقراط، أول ما وضع في تاريخ الآداب الإنسانية من نقد قائم على المذهب التقريري
ولقد ترى أثر هذا الرأي - رأي أننا ننقد على المذهب التقديري لا على المذهب التقريري