للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بمناسبة رمضان (شهر الإحسان)]

سؤال الناس

للأستاذ علي العماري

للشاعر الإسلامي جرول بن أَوس الملقب بالحطيئة وصية غريبة مشهورة عنه، ذلك أنه حين حضرته الوفاة قيل له: أوص يا أبا مليكة. فقال: مالي للذكور من ولدي دون الإناث، قالوا: فإن الله لم يأمر بذلك، قال فإني آمر به. قيل له: ألا توصي بشيء للمساكين؟، قال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا، فإنها تجارة لن تبور، قيل له: فلان اليتيم، ما توصي له بشيء؟، قال: أوصيكم أن تأكلوا ماله!

ومع غرابة هذه الوصية، ومع أننا نظن أنها وضعت لقصد الفكاهة، مع ذلك فإن الناس يعملون بها أكثر مما يعملون بأي وصية أخرى في هذه الشؤون، ويعنينا من وصيته ما وصى به المساكين، فإنهم اتخذوا السؤال مادة للكسب، وتجارة تدر عليهم الربح الوفير، والمال الكثير. ومع أن السؤال أردأ مهنة يحترفها الرجل، ومع أن المال الذي يجيء عن طريق أرذل كسب يكسبه، نجد العاجز والقادر، الشيخ والشاب، الرجل والمرأة، نجد من كل أولئك من يحترف السؤال ويعيش عليه، بل ويجمع الثروة الطائلة عن طريقه.

وليس أضر على المجتمع الناهض، وعلى الأمة التي تريد أن تبني مجدها، من أن يكون فيها جماعة يعيشون على كسب الغير وهم القادرون على العمل، فليس رقي الأمم هبة تعطى، وإنما هو عمل أبنائها، وجهاد في سبيل عظمتها ومجدها، وأول سلم في هذا الجهاد أن يؤدي كل إنسان واجبه، وأن يعمل كل فرد ما يستطيع من العمل. أما الكسل، وأما الاعتماد على الآخرين، فذلك ينافي طبيعة العمران، ويحط من شأن الأمة، ويعطل آلة النجاح والتقدم فيها.

ومن عجب أن أكثر هؤلاء السؤال يتمسحون بالإسلام، ويستدرون عطف الناس باسم الدين، والإسلام ليس فيه لهؤلاء حجة، فقد أزرى على السؤال، وبغض فيه، وحث على العمل، وأوجبه على القادر، ولو كان عملا دنيئا حقيرا، فهو - على كل حال - خير من مسألة الناس، وبعض أصحاب النفوس العالية يفهم ذلك تمام الفهم، فقد حدثني صديق أنه رأى رجلا يعمل عملا يستقذره الناس، فلما فرغ من مسح يديه بالتراب، وجلس يأكل، قال

<<  <  ج:
ص:  >  >>