للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[بنت الباشا. . .]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

كانت هذه المرأة وضاحة الوجه زهراء اللون كالقمر الطالع، تحسبها لجمالها قد غذتها الملائكة بنور النهار، وروتها من ضوء الكواكب.

وكانت بضَّة مقَسَّمةً أبدع التقسيم، يلتفُّ جسمها شيئاً على شئ التفافاً هندسياً بديعاً، يرتفع عن أجسام الغيد الحسان، أُفرِغَ فيها الجمال بقدر ما يمكن - إلى أجسام الدمى العبقرية التي أفرغ فيها الجمال والفن بقدر ما يستحيل.

وكانت باسمة أبداً كأول ما يتلألأ الفجر، حتى كأن دمها الغزلي الشاعر يصنع لثغر ابتسامتها، كما يصنع لخديها حمرتهما.

مالها جلست الآن تحت الليل مطرقة كاسفة ذابلة، تأخذها العين فما تشك أن هذا الوجه كان فيه منبع نور وغاض! وأن هذا الجسم الظمآن المعروق هو بقعة من الحياة أقيم فيها مأتم!

ما لهذه العين الكحيلة تذري الدمع وتسترسل في البكاء وتلِجُّ فيه، كأن الغادة المسكينة تبصر بين الدموع طريقاً تفضي منه نفسها إلى الحبيب الذي لم يعد في الدنيا؛ إلى وحيدها الذي أصبحت تراه ولا تلمسه، وتكلمه ولا يردُّ عليها؛ إلى طفلها الناعم الظريف الذي انتقل إلى القبر ولن يرجع، وتتملثه أبداً يريد أن يجئ إليها ولا يستطيع، وتتخيله أبداً يصيح في القبر يناديها: (يا أمي، يا أمي. .).

قلبها الحزين يقطع فيها ويمزق في كل لحظة؛ لأنه في كل لحظة يريد منها أن تضم الطفل إلى صدرها، ليستشعره القلب فيفرح ويتهنأ إذ يمس الحياة الصغيرة الخارجة منه. ولكن أين الطفل؟ أين حياة القلب الخارجة من القلب؟

لا طاقة للمسكينة أن تجيب قلبها إلى ما يطلب، ولا طاقة لقلبها أن يهدأ عما يطلب؛ فهو من الغيظ والقهر يحاول أن يفجر صدرها، ويريد أن يدق ضلوعها، ليخرج فيبحث بنفسه عن حبيبه!

مسكينة تترنح وتتلوى تحت ضربات مهلكة من قلبها، وضربات أخرى من خيالها، وقد باتت من هذه وتلك تعيش في مثل هذه اللحظة التي تكون في الذبيحة تحت السكين. ولكنها لحظة امتدت إلى يوم، ويوم امتد إلى شهر. يا ويلها من طول حياة لم تعد في آلامها

<<  <  ج:
ص:  >  >>