للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الطربوش والقبعة]

بمناسبة فوزنا الجديد

كان للطربوش امتياز على العمامة أيام كان الأمر للترك والأرناءود، لأنه كان يومئذ تاج السلطان، وشعار الحكم، ولباس الجيش، ورمز البطش، وعلامة الخطر؛ فكان يكفي أن يكون في الحي أو في الناحية (جندي) واحد لتخشع النفوس وتخضع الرءوس ويمحى القانون وتنتفي الحكومة، فلا يمر أحد وهو واقف، ولا يشتجر اثنان وهو موجود، ولا يعرف الناس من وراء بيته شرطة في قسم، ولا قضاة في محكمة

وكان للقبعة امتياز على الطربوش أيام كان الشأن لاحتلال الإنجليز وامتياز الدول؛ لأنها كانت حينئذ شارة الغلبة وبراءة الإجرام وصك الغصب وجواز المرور وإشارة الثراء وأمارة التفوق؛ فكان يكفي أن نرى (الخواجة) لنرى الغانم الذي لا يغرم، والمتصرف الذي لا يحاسب، والضارب الذي لا تقدر أن تغل يديه، والسفيه الذي لا تستطيع أن ترد عليه، والمدير الذي يملك المصارف والمصانع والمتاجر والشركات والبارات والمقاهي والملاهي والفنادق، ومن ورائه (المحكمة المخصوصة)، والمحاكم القنصلية، والمحاكم المختلطة، والتبجح الأشر والدعوى العريضة والبأو السليط. فكان الطربوش عنواناً على ذلك الإنسان الذي أفسدت فيه العبودية والجهالة مزايا الإنسانية فجعلتاه حياً تعافه الحياة، ووطيناً ينكره الوطن، ووريثاً يأنف منه التراث، وخلفاً يعرض عنه التأريخ؛ وكانت القبعة سمة على ذلك الأجنبي المتقحم بقوته على الضعف، وبقدرته على العجز، وبصحوته على الغفلة؛ فالتمايز في واقع الأمر كان بين ناس وناس، لا بين لباس ولباس. فأنك إذا وضعت الطربوش على جبهة الأسد كان مفخرة، وإذا وضعته على رأس القرد أنقلب مسخرة؛ وهل تصنع القبعة في الرأس الذليل إلا أن تجعل منه زنجياً في أمريكا، وحبشياً في أفريقيا، وصعلوكاً في كل قارة؟

أما نحن اليوم فخلق جديد في دنيا جديدة: تنبهت فينا ملكات الجنس فثرنا على الخسف، وتمردنا على الأذى، وزاحمنا الناس بالمناكب العريضة على مكاننا الخالي منذ قرون في صدارة الأمم، فانفتح الطريق البشري من خلفنا على المجد الأول، ومن أمامنا على النصر الأخير، وأصبح في وضع الطربوش على جباهنا مواح من سمو الشمس وشموخ الهرم،

<<  <  ج:
ص:  >  >>