للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وفي حمرته معان من أشعة الشروق، ودماء التضحية، وأوراد الربيع. وأضواء اللهب. فالتبرم به اليوم لا يجد له فيما أظن مساغاً من العقل مادام الرأس الذي يحمله قد أرتفع وامتلأ واتزن.

لا أريد أن أدخل بين الطربوش والقبعة، ولا أن أدعو إلى ذاك أو إلى تلك؛ وإنما أريد أن أقول إن ضعفنا هو الذي ظلم الطربوش كما ظلم اللغة والعلم؛ فإذا سوغ المنطق أن نترك الطربوش لأنه لا يطاول القبعة، سوغ كذلك أن نهجر العربية لأنها لا تنتشر في كل أرض، وأن نخرج على العلم لأنه لا يخفق في كل سماء. ولن تجد أهون على الناحية من رجل يأنس في نفسه الضعة فيحتال على العظمة بارتداء ثوب العظيم

ماذا يضرك الطربوش إذا كان لك طوائر تئز في السحاب، وبواخر تمخر في العباب، ومدافع ترعد في البر، وغازات تسطع في الجو، ومجلس ظاهر في العصبة، وقول نافذ في السياسة، ورأي مسموع في العلم، ومذهب متبوع في الأدب، ووطن يدبره حكمك، ويستثمره علمك، ويستقل بخيره وميره بنوه؟

وماذا تنفعك القبعة إذا قنعت من استقلالك بالإقرار به، ومن وطنك بالقرار فيه؛ ورضيت أن تعيش حميلة على قوة الحليفة، وصنيعة على رحمة الدول؛ واكتفيت بمظاهر التمدن من اللباس والرياش والترف واللهو؛ وظللت على الغرائز الجافية والحس البليد، تكذب لتمزح، وتغش لتربح، وتناقش فيفرط عليك صوتك ولسانك ويدك، وتحضر مجلس السماع فتجعله من التأوه والأنين والصخب والعربدة ماخوراً في مستشفى؛ وتسير في الطريق مرحاً أو ذاهلاً فتصدم المار فيلتفت إليك التفاتة العاتب ترضيه ابتسامة عاذرة، فتهجم أنت عليه بالنظرة الشزراء والكلمة الفاحشة؛ وتصعد الترام فتخطو بنعليك على أقدام الراكبين حتى تبلغ محلك فتنحط فيه كاشر الوجه غير ملتفت، أو ضاحك السن غير مكترث؛ وتمر بك الآنسة الخفرة أو السيدة الحاصن فتخز حسها بالنظر الفاجر، وتؤذي سمعها بالمنطق الخطل، ولا ينبهك ضميرك الأغلف إلى أن للأسرة حرمة وللمجتمع كرامة؟

طهر رأسك يا سيدي من درن هذه الخلال ثم ضع عليه طاقية أو لبدة أو أي غطاء شئت، ترتفع منزلتك في كل عين، وتقر هيبتك في كل صدر؛ فأن قيمة ذلك في الرأس الذي يحمله، والشعب الذي يمثله، لا في أصله ولا في شكله ولا في لونه؛ والثوب كما يقول

<<  <  ج:
ص:  >  >>