وعدنا في المقال السابق أن نورد الأدلة التي تثبت صحة ما ذهبنا إليه من أن الفضل بن الربيع وزبيدة قد شجعا أبا العتاهية على الإضراب عن إنشاد شيء من شعر الحب للرشيد ووعداه المال والحماية من كل سوء يتعرض له بسبب ذلك الإضراب. وقد حان اليوم موعد الوفاء بذلك الوعد، وسنبدأ بما يتعلق من ذلك بالفضل. ولعل أول ما يلفت نظر الباحث إلى وجود علاقة بين الشاعر وبينه هو انقطاع الشاعر عن مجالس الخليفة بعد شهور قلائل من تولي الفضل الحجابة للرشيد. والحق أن ذلك التقارب في الزمن بين الحدثين كان أول ما نبه أذهاننا إلى احتمال وجود علاقة بينهما. بل كان الشرارة الأولى التي انبعثت من أعماق ذلك الماضي البعيد لتفتح أعيننا على ما كان من انزلاق الشاعر إلى ميدان السياسة وتعاونه مع الفضل وزبيدة
وإن المرء ليعجز عن أن يجد مناسبة أخرى لتشدد الشاعر في مطالبة الرشيد بالتدخل السريع في أمر زواجه من عتبة، وإنا لنسأل أنفسنا لم اختار الشاعر ذلك الوقت بالذات؛ مع أن أنسب الأوقات لمثل ذلك الموقف الصلب كان عقب موت الخيزران، فقد كانت عتبة تعتذر عن الزواج باحتياج سيدتها إليها وعدم رغبتها في إغضابها؛ أما وقد توفيت الخيزران سنة ثلاث وسبعين ومائة للهجرة فإنا لنعجب لم انتظر الشاعر بعد سبع سنوات كاملة ليثور فجأة سنة ثمانين ومائة للهجرة؟. وما صمت في رأينا إلا لعجزه، وما ثار إلا لتقويه بما رأى من تشجيع الفضل وزبيدة
ويلفت النظر أيضاً ما أورده ابن الشاعر خاصا بإضراب أبيه عن قول الشعر في الحب:(. . . لما ذهب الرشيد إلى الرقة لبس أبي الصوف وتزهد وترك حضور المنادمة والقول في الغزل. . .) أليس للمرء أن يسأل لم أختار أبنه ذهاب الخليفة إلى الرقة ليؤرخ به لإضراب أبيه عن القول في الغزل؟ ألا يمكن أن يكون هناك علاقة بين الحدثين. يبدو لنا أن الرشيد إنما ذهب إلى الرقة فرارا من زبيدة التي كانت تدفعها غيرتها الشديدة التي التضييق على أأاتايي وتنغيصه كلما خلا إلى جارية من جواريه؟ فإذا صح هذا الافتراض