بات (عثمان بن مظعون الجمحي) ليلته يقلب الرأي، ويستلهم الفطنة؛ وإن الهم ليصطرع في رأسه، وأن الشك ليتلجلج في صدره، وإن بين عقله وعاطفته لحرباً مشبوبة ومعركة طاحنة أحق ما يقول محمد بن عبد الله؟ فما هذه اللاتُ والعُزَّى، ومَناةُ الثالثة الأخرى؟ وما ديننا الذي أورثنا آباؤنا ومضى عليه أسلافنا؟ أذلك الحق أم دين محمد؟
إني لأعرفه مذ كان - أصدق العرب حديثاً وأعظمها أمانة؛ أفيكذب حين يبدو الشيب في صدغيه، ثم لا يكون كذبه إلا افتراءً على الله. . .؟
أما ورب الكعبة لقد جاء محمد بأمر عظيم، إن يكن الصدق فما يقعد بي أن أكون في السابقين إليه. . .؟
فلما أسفر الصبح غدا عثمان على محمد في مجلسه ليسمه منه؛ فما هو إلا أن تلا عليه آياتٍ من الكتاب حتى اهتزت نفس عثمان، ونفذت السماء إلى قلبه، وغمره النور الإلهي، وشرح الله صدره للإسلام، فتمت به عدة المؤمنين أثنى عشر. . .
وانطلق عثمان إلى أهله يدعوهم إلى الله؛ فما تلبث أخواه (قدامة وعبد الله) أن آمنا بما آمن، وآمن من بعدهم بضع عشرة من بني عمه وولده؛ وإذا المؤمنون يزيدون ويكثرون، وإذا الدين الجديد يتنقل نبؤه في همس من فم إلى أذن، وينفذ في رفق من قلب إلى قلب، ثم يتدافع في قوة حتى ينتظم الأربعين من شباب قريش وكهولها. ثم إذا هو من بعدُ نداءٌ عام، يدعو إليه رسول الله من فوق (الصفا)، فيفشو أمره، ويتحدث به الناس، وتتناقله القبائل، وتتقاذفه فلوات شبه الجزيرة؛ فما ينكر على محمد دعوته إلا الملا من أشراف العرب. . .
أكنت ترى السادة من قريش أهل الرفادة والسقاية - ينزلون عن جاههم وسلطانهم بهذا لهوان لمحمد؛ أم تحسبهم يتركون ما كان يعبد آباؤهم مختارين انقياداً لهذا الداعي؟
إن كبرياء النفس البشرية هو إيمانها بنفسها؛ فما يغلبها على كبرياءها إلا الإيمان الأكبر؛ وما إن تبلغ هذا الإيمان إلا مقهورة عليه، نازلة على سلطانه الأقوى، من قادة له انقياد الرضى والاستسلام؛ فإذا هي بلغت ذاك فقد تبدلت النفس غير النفس؛ فما تتكبر إذ تتكبر