للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[النحو]

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

النحو علم لا أعرف منه إلا اسمه. وما أكثر ما أجهل وأضأل ما أعرف! ولو كنت وجدت من يعلمنيه لتعلمت وما قصرت. وكيف بالله تنتظر مني أن أعرفه بالفطرة والإلهام. . . كان أول من قيل لنا إنه معلم نحو رجلا قاسياً سيئ الطباع سريع البادرة، وكانت له عصا قصيرة من الخيزران يدسها في كمه، حتى إذا أمن أن يراه الناظر أخرجها وسلطها على أجسامنا الصغيرة وأهوى بها على أيدينا وجنوبنا ورؤوسنا فلا يتركنا إلا بعد أن ينقطع نشيجنا وتخفت أصواتنا وتذهب عنا القدرة على الصراخ والاستنجاد، فلم يكن ابغض إلينا من درسه. ومن المضحك أن ذلك لم يكن يخيفنا منه ولا يزيدنا إلا إلحاحاً في معابثته. وكنت أنا أثقل التلاميذ عليه وأبغضهم إليه، لأني كنت - وأحسب أني مازلت - شيئاً صغيراً جداً وخفيفاً مستدقاً لا استقر في مكان. ولا أزال أنط من هنا إلى هنا ولا يكف لساني عن الدوران. فكان نصيبي من هذه العلقات النصيب الوفر وحضي هو الأجزل. وكان الناظر فيه سذاجة عجيبة لم تفتنا نحن الأطفال. وكيف كان يمكن أن يفوتنا التفطن إلى سذاجته ونحن مئات من الأطفال لنا مئات من العيون نفحصه بها، ومئات أخرى من الآذان والرؤوس تسمعه وتتدبر أمره وتجسه وتختبره. . . فكنت أذهب إليه وأقول له على سبيل الملق والدهان: (يا سعادة البك) فيلتفت بوجهه الكبير إلي ويقبل علي بابتسامته البلهاء، فقد كانت الرتبة جديدة وفرحه بها عظيما. ويسألني (مالك يا امن (بالميم فقد كان أخن) عبد القادر) فأقول له: (يا سعادة البك. الشيخ فلان يا سعادة البك معه عصا يخفيها في كم القفطان ويضربنا بها يا سعادة البك) وكنت صادقاً ولكنه لم يكن يعرف أني صادق؛ غير أنه كان يسمع (سعادة البك) تصافح أذنه مرات عديدة في نصف دقيقة فيطرب، ويصرفه الطرب عن التثبت فيقول لي - متآمراً معي - (طيب. رح إلى الفصل وعاكسه) أي والله كان يحرضني على معاكسة الشيخ المسكين ليضبطه - كما يقال - متلبساً بالجريمة، أو كان يكتفي بأن يأمرني بالعودة إلى الفصل ثم يدخل هو ويفاجئ الشيخ بانتزاع العصا من كمه ويوبخه أمامنا وينصرف. فتصيح أربعون حنجرة جديدة (هيه) فيكاد الشيخ يجن وينهال علينا ضرباً باليدين والرجلين فتنكشف سراويلاته فيعلو الصياح من جديد، ولكنه

<<  <  ج:
ص:  >  >>