يكون قد تعب وأضناه الجهد وبهر أنفاسه العدو وراءنا فيقف وهو ينهج ويخرج المنديل من جيب القفطان ويمسح به العرق المتصبب ونحن جميعاً نتكلم وليس بيننا واحد يصغي إلى ما يقال
هذا كان أستاذنا في النحو. ولو أنه كان موفقاً في التعليم لكان الناظر وحده كفيلا بإفساد الأمر عليه. فقد كان يتظاهر بالعلم بكل شيء وهو لا يعرف شيئاً. فإذا تورط ولم يسعه إلا الاعتراف بجهله قال:(جاهل جاهل. لكن إداري تمام) ومن ظريف ما اذكره من نوادره أنه دخل علينا في درس ترجمة وكان المعلم غائباً. ولم يكن هو يعرف ذلك وان كان فيما يزعم إدارياً حاذقاً. ولكنه سمع ضجتنا العالية فسأل فقيل له إن هذه الفرقة ليس فيها معلم، فلم يندب غيره بل جاء هو إلينا بنفسه وبطوله وعرضه وسألنا:(ما لكم يا أولاد؟) قلنا (يا سعادة البك المعلم غائب) قال (الدرس إيه) قلنا (ترجمة يا سعادة البك) فانشرح صدره واغتبط وأيقن أنه سيظل يسمع منا ما يسره فقال: (طيب وايه يعني؟) فقلنا (يا سعادة البك لم نفهم الدرس السابق يا سعادة البك) فسأل عن هذا الدرس السابق الذي استعصى علينا فقلنا له انه كان يحاول أن يعلمنا النفي في اللغتين العربية والإنجليزية ولكنا لم نفهم عنه. فأعرب لنا بعبارات صريحة عن دهشته وتعجبه لوزارة المعارف التي تعين مدرسين لا يحسنون تفهيم لتلاميذ، وأكد لنا أنه يعطف علينا لأننا نؤدي للوزارة أجور التعليم كاملة ولا نتعلم مع ذلك شيئاً. ثم قال أن المسألة بسيطة وأن النفي سهل جداً وأن أدواته في اللغة العربية معروفة وهي (لا ولم ولن الخ) والأمثلة سهلة ومعروفة، وشرع يسوق الأمثلة. فلما بلغ (لم) قال (مثلا. . لم كتب. لم ضرب. لم ذهب) فانفجرنا ضاحكين وكان لنا العذر. وكيف لا نضحك من (لم كتب ولم ضرب) فلما سكنت العاصفة بعض السكون قال يوبخنا ويزجرنا ويعظنا: (تضحكون؟. . ابكون. . ابكون. .) فلم يبق منا طفل على مقعده من شدة الضحك. ولم يسكتنا الخوف منه وإنما أسكتنا الألم الذي صرنا نحسه في بطوننا من الضحك الطويل
هذا في التعليم الابتدائي. أما في التعليم الثانوي فقد كان أول معلم لي فيه مصابا بالربو، فكان لا ينفك يسعل ويتفل حتى توجعنا بطوننا، ولهذا كنا ننام في درسه أو نهرب منه اتقاء لوجع البطن. ثم صار لنا معلم آخر وكان سياسيا ولكنه كان في هذا نسيج وحده، فكان يغلق