منذ عرف الإنسان السياسة لم يجد سبيلاً للتوفيق بينها وبين المثل الأخلاقية العالية. فهو أما أن يهجرها ويصد عن سبيلها كما يفعل رجال الدين في كل العصور، أو يشتغل بها ويواجه كل مواقف بما هو أهل له، فيرد ما لقيصر لقيصر كما يقول المثل المعروف. والسياسة لا تعرف غير الحقائق الواقعة، فليس من السهل أن نسألها العطف أو الرحمة أو الأناة أما إلى ذلك من الخلال التي نعرفها في حياتنا العامة.
ولعل من أهم الأسباب التي تجعل للسياسة هذا اللون، أنها تدين في الحياة للقوة، والقوة سلاح خطر، وإن كانت في ذاتها شيئاً لا هو من الخير ولا هو من الشر، شيئاً لا لون له ولا صفات فمرجعها في الحقيقة إلى الغاية التي تستخدم في سبيلها والوسائل التي تلتمس لها.
وقد واجه الحكماء والمحكمون هذه الصعوبات منذ عرفت السياسة. إلا أن ظروف العالم الحاضرة اليوم قد أمدتهم بشيء من الصرامة والتأييد. ويرجع ذلك إلى سببين: السبب الأول هو أتساع نطاق الحياة السياسية باشتباك الصوالح الدولية، فكثير من أحوال السياسة اليوم لا يرجع أمره إلى المصالح والأغراض الوطنية كما كان بالأمس، فللشئون الدولية أهميتها الكبرى في هذه الأحوال، ومن هنا يصير الاعتماد على القواعد الأخلاقية أشد صعوبة مما كان عليه في العهود السالفة.
أما السبب الثاني فهو أشد عمقاً من السبب الأول: وذلك أن الشعوب في هذه الأيام لم تعد تهتم بالدعوة الأخلاقية في العالم السياسي، لأنها غير واثقة من كيانها الأخلاقي نفسه.
لقد كانت الدول الأوربية منذ خمسين عاماً، بل - منذ عشرين عاماً كذلك - يربطها وثاق متين من الأخلاق المسيحية
- ولا أقول إن الحياة في تلك العهود قد وصلت إلى مستوى الأخلاق المسيحية السامية - ولكن هذا الباب كان مفتوحاً على كل حال. ولكنا اليوم نرى فجوة واسعة في العلاقات الدولية فلم يعد يصل ما بينها ذلك التعاون القديم الذي تقلصت ضلاله ولم يحل محل شيء