أخلى الشتاء للصيف سبيله هادئاً أول الأمر، ولكنه حين تمكن من القوم أصلاهم ما تعودوا منه مبالغاً في ذلك مفتناً فيه.
ونفر القوم إلى حيث يهادن الصيف، فازدحمت القطُر التي تقصد الشاطئ، وكأنما أبى الحر أن يتيح لهم متعة السفر فجعل من زحامهم عوناً له على إنجاح مهمته في إقامة مشهد من مشاهد جهنم على الأرض.
لم أكن من هؤلاء السعداء قصاد الشواطئ فقنعت بيومين أقضيهما في الريف. ولم يعرف السفْر ذلك فأشركوني في بلائهم فاشتركت مرغماً.
كان بالمقصورة ثمانية أشخاص بين رجال ونساء، وكان لكل منهم صاحب سفر يهمس أحدهما للآخر بما يقطع به الطريق ويخفف القيظ.
وظننت أنا وصاحبي أن الأمر سيقتصر على الهمس، ولكنه حين انجلت ضجة المحطة واستبد القطار بالطريق. علا صوت ناعم برطانة فرنسية، فهمست إلى صاحبي:
- إنها تجيد الفرنسية إجادة أهلها لها، ولعلها أن تكون هي نفسها فرنسية.
- أما قسماتها فلا تدل على ذلك، ورفيق سفرها كما ترى يلبس طربوشاً، وما أظنك ترى أنه هو الآخر فرنسي.
- ومتى عرفت أن المصري لا يصاحب فرنسية؟ وعلى أي حال إن تكن فرنسية فهي من طبقة مصرية راقية. .
- ولا هذا. . لأن الطبقة التي تعنيها لم تعد تباهي بتعلم الفرنسية كما تفعل صاحبتنا الآن. . وقد كان آنسات هاته الطبقة يباهين بتعلم هذه اللغة ليتصيدن بها الرجال. . أما اليوم وقد وجد أغنياء الحرب وتمكنوا من إدخال بناتهم حيث يتعلم الآنسات الراقيات - كما يردن أن يسمين أنفسهن - أما والأمر كذلك فلم تعد بالراقيات حاجة إلى إظهار علمهن باللغة الفرنسية، فهي اليوم لا تدل على شيء. . . وما أظنالآنسة إلا بنت ثري حرب لم يكن ليتوقع لابنته أن تلوي لسانها في فمها بلغة غير العربية. .
- والعربية الدارجة. . فحين حقق الله له شيئاً لم يكن لينتظره أطلق ابنته من عقالها فرحاً