للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الكيف لا الكم]

للأستاذ أحمد أمين

روي أن ابن سينا كان يسأل الله أن يهبه حياة عريضة وإن لم تكن طويلة، ولعلّه يعني بالحياة العريضة حياة غنية بالتفكير والإنتاج، ويرى أن هذا هو المقياس الصحيح للحياة. وليس مقياسها طولها إذا كان الطول في غير إنتاج، فكثير من الناس ليست حياتهم إلاّ يوما واحدا متكررا، برنامجهم في الحياة أكل وشرب ونوم، أمسهم كيومهم، ويومهم كغدهم، هؤلاء إن عمّروا مائة عام فابن سينا يقدره بيوم واحد، على حين أنه قد يقدّر يوما واحداً (طوله أربع وعشرون ساعة) بعشرات السنين إذا كان هذا اليوم عريضا في منتهى العرض، فقد يوفق المفكر في يومه إلى فكرة تسعد الناس أجيالا أو إلى عمل يسعد آلافا، فحياة هذا (وإن قصرت) تساوي أعمار آلاف بل قد تساوي عمر أمّة، لأن العبرة بالكيف لا بالكم.

وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد

وتقدير الأشياء بالكيف لا بالكم منزلة لا يصل إليها العقل إلاّ بعد نضوجه. أمّا الطفل في نشأته، والأمة في طفولتها فأكثر ما يعجبهما الكم، فالريفي عنده خير (الخيار) ما كبر حجمه وبيع بالكوم، والمدني خير (الخيار) عنده ما نحف جسمه وكان (كالقشّة) وبيع بالرطل. والطفل وأشباهه يرغبون بكثرة العدد لا بجودة الصنف، فحيثما مررت في الشارع أو زرت متجراً رأيت أكثر الترغيب في الكم (فأربعون ظرفا وجواباً بتعريفة)، و (دستة أقلام رصاص بصاغ)، وهكذا، وسبب هذا أن البيع والشراء يعتمدان على أدق قوانين علم النفس، والباعة من أعرف الناس بهذه القوانين التي تتصل بعقلية الجمهور، فهم يعلمون أنهم أكثر تقويما للكم، وأكثر انخداعا بالعدد، فهم يأتونهم من نواحي ضعفهم وموضع المرض منهم، وقل أن يرغبوهم في الشيء بأنه من (العال) أو (عال العال) لأن هذا تقدير للكيف وليس يقدره إلاّ الخاصة.

وكل إنسان قد مرّ بدور الطفولة، والأمم جميعها مرّت كذلك بهذا الدور فعلق بأذهانهم تقدير الكم ولم يستطيعوا أن يتحرروا منه مهما ارتقوا، وأصبحوا (حتى الخاصة منهم) ينخدعون بالكم من غير شعور وبلا وعي، وصار هذا مرضا ملازما، إنما يتحرر منه الفلاسفة وإلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>