حد، ألاّ ترانا نرى الرجل الضخم حسن الهيئة جميل الطلعة فنمنحه الاحترام، ولو لم نعرف قيمته، ونرى الرجل صغير الجسم غير مهندم الثياب فنحتقره لأول وهلة من غير أن نعرفه، وأساس معاملتنا بالإجمال احترام ذوي المظاهر الجميلة حتى يثبت العكس واحتقار ذوي المظاهر الوضيعة حتى يثبت العكس، وليس ذلك إلاّ من خداع الكم ولو أنصفنا لوقفنا على الحياد من الجميع حتى نتبين الكيف.
ونرى ذا العمامة الكبيرة واللحية الطويلة فنعتقد فيه العلم والدين، مع أن لا علاقة بين كبر العمامة وطول اللحية وبين العلم والدين وإن كان ثمّة علاقة فعلاقة الضدية، لأن الدين محلّه القلب والعلم موطنه الدماغ، وإذا مليء القلب دينا والدماغ علما أحتقر المظهر وأبى أن يدل على دينه أو علمه بمظهر خارجي بل هو إن امتلأ دينا وعلما أنكر على نفسه الدين والعلم وأعتقد أنه أبعد ما يكون عمّا ينشده من دين وعلم، وكذلك الشأن في اللباس الجامعي واللباس الكهنوتي.
وقديما أدرك العرب خداع الكم فقالوا:(ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل.)
وقال شاعرهم:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنّك الرجل الطرير
وفي كل شأن من شؤون الحياة وضرب من ضروب العلم والفن ترى خداع الكم ولنأخذ الأدب مثلا.
فالمؤلفون يعلنون عن كتبهم أنها في أربعمائة صفحة - مثلا - من القطع الكبير، والمتعلمون كثيراً ما باهوا بكثرة ما قرءوا والكتّاب بكثرة ما كتبوا، والصحافة كثيرا ما خدعت القرّاء بالكم. فكان مما اصطنعته زيادة عدد الصفحات في الجرائد والمجلات مع أن الصفحات وحدها كم ولا قيمة لها ما لم يصحبها الكيف، وكم أتمنى أن أرى جريدة أو مجلة ترغِّب قرّاءها بالكيف فقط وإن كنت أجزم بأن مصيرها الفشل لأن أكثر الناس لم يمنحوا بعد ميزان الكيف.
وقد جرت كثرة الصفحات في الجرائد والمجلات إلى تحوير الأسلوب إلى ما يناسبها فكان الأسلوب أحيانا كالعهن المنفوش يصاغ في صفحة، ما يصح أن يصاغ في عمود وفي