عمود ما يصح أن يصاغ في سطر ولست أدري لم كان الناس إذا أرسلوا تلغرافا تخيروا أوجز الألفاظ لأغزر المعاني، ولم يفعلوا شيئا من ذلك في كتبهم ورسائلهم ومقالاتهم؟ ولعلهم يفعلون ذلك لأن الكلمات في التلغراف تقدر بالقروش وليس كذلك فيما عداها، إن كان هذا هو السبب دلّ على تقدير القرش اكثر مما يقدر زمن القارئ والكاتب، وفي هذا منتهى الشر، وفي هذا أقسى مثل لغفلة الناس في تقدير الكم لا الكيف.
وقديما عرض علماء البلاغة للكيف والكم في الأدب وسموهما اسماً خاصاً هو الإيجاز والإطناب، وعدوا الإيجاز أشرف الكلام والإجادة فيه بعيدة المنال لما فيه من لفظ قليل يدل على معنى كثير، ومثلوا للإيجاز والإطناب بالجوهرة الواحدة بالنسبة إلى الدراهم الكثيرة، فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم لكثرتها، ومن ينظر إلى شرف المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها، ولا يعدل عن الإيجاز إلى الإطناب إلا لإيضاح معنى أو تأكيد رأي.
والحق إن الأدب العربي في هذا الباب من خير الآداب، فاكثر ما صدر في عصوره الأولى حبات من المطر تجمعت من سحاب منتشر، أو قطرات من العطر استخلصت من كثير من الزهر.
وبعد، فلست أحب أن تكون كتابتنا كلها تلغرافات، وإذن لعدمنا ما للأسلوب من جمال، وما لتوضيح الفكرة وتجليتها وتحليتها من قيمة، وإنما أريد أن يكون المعنى هو القصد وهو المقياس فان أطنبنا فللمعنى، وإن أوجزنا فللمعنى.
وأريد أن يقوّم الناس الكيف للكيف، وإذا قدروا الكم فللكيف.
ولعل من ألطف ما كان، أني حين بلغت هذا الموضع من مقالتي أخذت أعد صفحات ما كتبت، فوجدتها قليلة العدد فآلمني ذلك لأني لم أبلغ ما حزرت أن يكون، ولأني خشيت أن يستصغرها صاحب الرسالة وقراء الرسالة وفرحت بهذه الملاحظة لأنها سدت فراغا ما في المقالة يكمل بعض ما فيها من قصر، ألسنا جميعا عباد (كم)، أو ليس هذا من نوع تقدير الخيار بالكوم؟