كان التاريخ أول أمره قصصاً يختار القصاص من أنبائه ما بهرهم وما يستثير إعجاب الجمهور، وكان يدور حول حوادث الآلهة والأبطال فكان عند اليونان مصوغاً شعراً قصصياً يرتل وينشد، شعراً يتغنى بمجد اليونان، ويشيد بما كان لأبطالهم من بلاء في الحروب؛ وأول أثر تاريخي وصلنا في ذلك القالب شعر (هوميروس).
ومثل ذلك كان موجوداً عند الشعوب التي لم تبلغ بعد حظاً من الحضارة، تاريخها قصص يتناقله الرواة ومركزه الأبطال. ظهر ذلك عند العرب في الجاهلية، وعند الترك قبل دخولهم المسيحية، وعند الفرس القدماء وغيرهم. ويغلب في ذلك النوع من التاريخ الأسطورة أو الأخبار، لأن العنصر الشخصي ظاهر فيه من ناحية الشاعر والناقل والقاص، فكل منهم ينتقي ما راقه - في الغالب - دون نقد أو تفكير، ثم يضيف إليه ما يضيف، أو ينقص منه ما شاء أن ينقص. فأمثال هوميروس ينسبون إلى أبطالهم وآلهتهم ما شاءوا من أعمال لا يستطيع العقل تصديقها، وسبح بهم الوهم والخيال. . . ولم يخف ذلك على بعض عقلاء اليونان من أمثال (أيزوكراتيس الذي يقول: (فلم ينسبوا إليهم - أي إلى الآلهة والأبطال - الوقوع في أسر من يموت ويفنى، ولكنهم يمثلونهم آكلين أطفالهم، معذبين آباءهم، ومقرنين أمهاتهم في الأصفاد).
وأول من أهتم بالتاريخ وبذل جهداً لجمع الأخبار بنفسه، ويهتم بالناحية الجغرافية في دراسته، ويعرض الآراء المختلفة أمام جمهرة قارئيه أو سامعيه ليختاروا منها ما شاءوا. ولكن هيرودتس كان قبل كل شئ قاصاً إخبارياً، يجمع ما له قيمة في نظره وما يلذ جمهوره فهو في الواقع أب المؤرخين القاصِّين الإخباريين.
وتمت المرحلة الثانية في البحث التاريخي على يد ثيوكيديدز مؤرخ حرب البلبونيز - انتقد ذلك الرجل سرعة الناس إلى التصديق، وعدم تمييزهم ما بين الصحيح وغير الصحيح ولذا فهو يهتم بتنظيم حقائق هذه الحرب حتى يبين الحوادث؛ وهو يعني بنقد حقائقه ويقول:(إنني ما وصفت شيئاً رأيته، أو سمعته، ولم أحققه بكل تدقيق وعناية).