للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[نهاية شاعر]

للأستاذ علي العماري

كانت ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة في السنة الثالثة والعشرين بعد الهجرة ليلة فاصلة بين عهدين من عهود الإسلام: عهد الأمن والسلامة والهدوء، وعهد الغدر والعدوان والفتنة؛ فقد تنفس صبحها عن حادث جليل، وجناية مروعة اهتزت لها أركان الدولة العربية، وأحدثت في الإسلام الحدث، وأي نازلة أروع من قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؟!

في هذه الليلة ولد لرجل من رجالات قريش طفل أسماه (عمر) وكناه (أبا الخطاب) ذاك أمير العدل والحزم والحكمة، وهذا أمير اللهو والغزل والشعر، لذلك كأن أهل التوقي إذا تذاكروا - فيما بعد - شئون هذه الليلة جرت على ألسنتهم هذه الكلمة (أي حق رفع، وأي باطل وضع)

نشأ (أبو الخطاب) كما ينشأ لذاته من فتيان قريش المترفين يسحب ذيول الصبا، ويجري ملء عنانه في مراتع الهوى والجمال. غنى واسع، وجاه عريض، وعز باذخ، وقد أعانه على ذلك وسامة تحب، وظرف يعشق، ولسان ساحر، وقلب شاعر، وإنما تركه سراة قريش، وأغضى عنه شيوخها، يمتع في مجالي شبابه، ويفتن في ذكر فنونه وفتونه، ويتبع فتياتها، ويشبب بهن (رعاية لأسرته، وفخراً بشاعريته، وترقباً لتوبته)

وربما كانوا يرجعون أن يرفع في الشعر قدرهم، ويعلي فيه سناهم، ولقد نالوا من ذلك ما أرادوا، فإن العرب كانت تقر لقريش بالفضل في كل شيء إلا الشعر، حتى نبغ ابن أبي ربيعة فأقرت لها بالشعر أيضاً.

وكأنما أغرته كل هذه الأسباب مجتمعة، فاندفع لا يلوي على شيء، وسدر في غوايته لا يبالي أحداً، وكان عبثه لا يكاد يتعدى النساء، فهو يواعدهن ويتحدث إليهن ويخدعهن، ثم يودع ذلك كله في شعر قصصي رقيق، وأسلوب لين عذب (وإن له لموقعاً في القلوب، ومدخلا لطيفاً، لو كان شعر يسحر لكان هو). (فلشعر ابن أبي ربيعة لوطة بالقلب، وعلق بالنفس، ودرك للحاجة، وما عصى الله بشعر قط اكثر مما عصى بشعر ابن أبي ربيعة). وقد جمح به الصبا والغزل، فاتخذ أيام الحج مواسم لصبواته، ومشاعر البيت الحرام مرابع

<<  <  ج:
ص:  >  >>