جلس جماعةُ أصحاب الحديث في مسجد الكوفة، ينتظرون قُدومَ شيخهم الأمام (أبي محمد سليمان الأعمش) ليسمعوا منه الحديث، فأبطأ عليهم؛ فقال منهم قائل: هلموا نتحدثْ عن الشيخ فنكون معه وليس معنا. فقال أبو معاوية الضرير: إلى أن يكونَ معنا ولسنا معه! فخطرت ابتسامةٌ ضعيفةٌ تهتزُ على افواه الجماعة لم تبلغ الضحك، ومرت لم تُسمع وكأنها لم تُرَ، وانطلقتْ من المباح المعْفُو عنه. ولكن أكْبرَها أبو عَتاب منصور بن المُعْتَمِر فقال: ويلك يا أبا معاوية! أتتندرُ بالشيخ وهو منذ الستين سنة لم تَفُتْه التكبيرةُ الاولى في هذا المسجد، وعلى أنه مُحدث الكوفة وعالِمُها، وأقرأ الناسِ لكتاب الله، وأعلمهم بالفرائض، وما عَرَفت الكوفة أعبدَ منه ولا أفقه في العبادة؟
فقال محمد بن جُحَادة: أنت يا أبا عتاب، رجلٌ وحدك، تُواصِلُ الصومَ منذ أربعين سنة، فقد يَبسْتَ على الدهر وأصبح الدهر جائعاً منك، وما بَرحتَ تبكي من خشية الله، كأنما اطلعت على سواء الجحيم، ورأيت الناسَ يتواقعون فيها وهي لهبٌ أحمرُ يلتفُ على لَهب أحمر، تحت دخان أسود يتضربُ في دخان أسود، يَتَغامسُ الإنسان فيها وهي مِلءُ السموات، فما يكون إلا كالذبابة أو قدوا لها جبلاً ممتداً من النار، ينطاد بين الأرض والسماء، وقد ملأ ما بينهما جمراً وشُعلاً وحمماً ودخاناً، حتى لتهاربُ السحب في أعلى السماء من حره، وهو على هوْلِه وجسامته لِحرْق ذبابةٍ لا غيرها، بَيْدَ أنها ذبابةٌ تُحْرَقُ أبداً ولا تموت أبداً، فلا تزالُ ولا يزال الجبل!
فصاح أبو معاوية الضرير: ويحك يا محمد! دَعِ الرجل وشأنه؛ إن لله عباداً متاعهم مما لا نعرف، كأنهم يأكلون ويشربون في النوم، فحياتُهم من وراء حياتنا، وأبو عتاب في دنيانا هذه ليس هو الرجلَ الذي اسمهُ (منصور) ولكنه العملُ الذي يهمله (منصور). هل أتاكم خبر قارئ المدينة (أبي جعفر الزاهد)؟ قال الجماعة: ما خبره يا أبا معاوية؟ قال: لقد تُوفي من قريب، فرئي بعد موته على ظهر الكعبة؛ وسترون أبا عتاب - إذا مات - على منارة هذا المسجد! فصاح أبو عتاب: تخلل يا أبا معاوية؛ أنا حفظت خبر ابن مسعود:(كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم: (تخللْ) قال: مم اتخللُ؟ ما أكلتُ لحماً؟ قال: (إنك أكلتَ لحم