مضى محمد علي بخش رئيس الوزارة البهرية وأنا في أثره، في بعض جادة القصر، حتى انتهى وانتهيت معه إلى باحة فسيحة أمام سلم مديد، ذي ست درجات من رخام أبيض يشف عن زرقة رقيقة، فلما أن درجناه كنا أمام بابين رحيبين، كلاهما سبيل إلى تلك الحجرة الرهيبة التي يستقبل داعي الدعاة زواره فيها؛ وإذا كانت غرفة الانتظار قد تقاضتنا خلع الأحذية قبل ولوجها، فأحر بغرفة الشيخ الأكبر أن تطالب قصادها بمثل ذلك وأكثر منه. وكذلك هتفت بي نفسي هذه المرة بما هتف به سائق السيارة من قبل، أن اخلع نعليك فإنك قادم على أنيس المهدي المنتظر وجليسه، وأمينه سرا وعلانية، وأبى بكره من دون الخلق أجمعين!
ولقد ظللت مذ أسري بي في غرفة الانتظار إلى غرفة الملتقى - وكلاهما حرام - منصرفاً عن كل ما عسى أن يتداول سمع المرء وبصره، إلى التفكير في ذلك الرجل الذي يتقاضى جميع الناس كل أسباب التقديس له، بين مؤمن بمذهبه ومستريب به ومنكر له، ثلاثتهم من تقديس الشيخ في أوضاع متشاكلة ما أرادوا لقاءه، بل وما يكون هذا التقديس من ثالث الثلاثة تكلفا ولا صناعة ولا زيفا، فقد كنت أحسبه كذلك من قبل، وهأنذا الآن في منتصف الطريق بين الحجرتين، مفعم النفس برهبة شديدة تكاد تطغى على الرغبة الشديدة في رؤية الشيخ، بل وما فتئت هذه الرهبة تشتد سريعاً، حتى لقد بلغت شأوها في ثلاث من خطواتي، وإذا بالحواس الخمس قد رقت في بعض الدقيقة ودق إرهافها، فكأنما غادرت عالم الملموس والمحسوس إلى عالم الإلهام؛ ومادام هذا العالم الجديد لا يدرك مما يحيط بالمرء وإنما يدرك من باطنه، من دخائل نفسه، فقد انقلبت حواسي كلها إلى نفسي، وكأنني بت لا أعي من الوجود شيئاً، ولم تزل هذه النفس المرتهبة تتسع حتى تملأ كل فضاء داخل الجسد، وتشمل القلب كله، وتغير على ما فوقه وما تحته، وما عن يمينه وما عن يساره،