// لم يطل ليلى ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم
. . . ولكنه لم يكن طيف غرام ولا خيال غانية، ولم يكن صدا هذا الذي عقد طرفى بالنجم، ولا بعدا هذا الذي أغرى بي الهم، ولكنها ذكرى!
كن ما استطعت قوي العزم، عصي الدمع. فسيصهرك الأسى وسيقهرك الدمع، سيلاحقك هذا الطيف، ستستبد بك هذه الذكرى
مصر في أمر مريج: رجال هنا وبنود، ورصاص هناك وجنود، هنا حق مغلوب أبي، وهناك باطل ظلوم قوي، هنا رجال أقوياء بحقهم يزيدهم الإيمان غلوا؛ وهناك رجال أقوياء بسلاحهم يزيدهم الظلم عتوا، ولكن الحق من روح الله فهو نصيره، والباطل من عمل الشيطان فالخذلان مصيره.
الشوارع يومئذ تزخر بأمواج المتظاهرين الثائرين، الشباب دائماً في الطليعة، الرايات الخضر تتردد خفاقة بين أحضان الريح، الموسيقى تعزف أنشودة (الحرية أو الموت) الصليب والهلال يتعانقان بعد أن محت وحدة الألم ما أقره في الأذهان المريضة صاحب (فرق تسد)، السيدات يلوحن من النوافذ بالمناديل والأعلام، ويهتفن في اتصال وانفعال. . بل إني لألمح فتاة شقراء يلفها العلم الأخضر تتقدم الصفوف، وتهتف في صوت حزين رهيب تخنقة العبرات ونبرات طويلة حلوة (شجرة الحرية تروي بالدماء - في سبيلك يا أماه نستشهد)
لقد كنت تلميذاً صغيراً يومئذ، ولكن اسماً وتاريخاً ما زالا محفورين في قلبي. أما التاريخ فهو ١٩ مارس ١٩١٩ وأما الاسم فهو (مصطفى ماهر أمين) الطالب بالسعيدية!! لقد كان مصطفى يقود الصفوف، وصدى المدافع يصم المسامع، والهول يأخذ على الناس كل طريق، وقد انبثت أسباب الموت في كل مكان، وتقسم الجنود الشوارع ينثرون على الجموع رشاش الهلاك، مصائب بعضها فوق بعض
ولكن مصطفى ماض في عزم، راض في ايمان، يحمل العلم عاليا خفاقاً، ويحتمل الألم راضياً فخوراً، عيناه تشعان نوراً وصدره يلتهب نارا وسعيرا، شفتاه تقذفان شرراً، ووالله ما رده اليأس ولا الخوف، ولا صده العنف ولا الضعف، يسوقه الإيمان ولا تعوقه النيران، يدفعه الإخلاص ولا يمنعه الرصاص: رجل والرجال في الدنيا قليل، وهناك. . . عند