الحرية المطلقة طبعها على الصراحة وجعلها تهيم بالجمال في شتى نواحيه. . .
ولكن ما هي إلا عشية أو ضحاها حتى زلزلت الأرض زلزالها وقبض (سنخاريب) على معول يهدم به وكر السعادة. . . فاستفاقت الطفلة مذعورة في أحد أيام شتاء سنة ١٩٢٤ ونظرت حولها فكادت تنكر الدار التي بها ترعرعت إذ هنا وهناك تكدس أمامها الأثاث في غير نظام وعهدها بدارها نموذج التنسيق والجمال. . . وإذا بالأم تقبل مرتجفة واجمة وتنادي الطفلة بصوت تخنقه العبرات أن أسرعي فقد أزف وقت الرحيل عن الديار نعم، وا أسفاه. . . لقد حل بالمصريين في السودان عام ١٩٢٤ ما دهى بني إسرائيل في أورشليم في القرن السادس قبل الميلاد على يد الكلدانيين. . . ولم تطلب الطفلة إيضاحاً لأنها أدركت بغريزتها حدوث أمر جلل. . وهل بعد الطرد والتشريد من الديار من مصاب؟. . تركت الطفلة حجرتها في صمت رهيب، وسارت حتى بلغت حديقة الدار الفسيحة فأطلت على النيل برهة امتزجت فيها دموعها بمياهه، ثم توغلت بين الأشجار التي طالما احتمت برؤوسها كلما توعدتها أمها بالعقاب وتعلقت بغصونها، وأخذت تقبلها قبلات الامتنان والوداع. ومازالت تسير حتى بلغت مكان طيورها وحيواناتها العزيزة ووقفت أمامها في خشوع فأقبلت إليها النسانيس وتعلقت بشعرها ونظرت في وجهها كما لو كانت تستفهم سبب وجومها، واقتربت منها الغزلان وقد كان عهد الطفلة بها شدة النفور والابتعاد فوقفت أمامها كتمثال. ولم تكد الطفلة تجثو على قدميها لتعانق أعزاءها العناق الأخير حتى أقبلت الأم مهرولة، وجذبتها معلنة قدوم العربات. فاستسلمت الطفلة استسلام اليائس، على أنها سرعان ما وقفت عن المسير وأجهشت بالبكاء إذ تذكرت أنها تركت وراءها عصافيرها المحبوبة دون ماء أو غذاء، ولكن الأم رغم تأثرها العميق لم تدعها تفلت من يدها إذ كان عليها أن تحلق القطار.
بمثل هذه العجلة المؤلمة ختمت حياة الطفولة الرغدة في السودان وبمثل هذه القسوة انتزعت الطفلة البريئة من بين أحضان المهد الرؤوم دون إنذار. . فلا غرو أن يتضاعف حنينها إلى المهد المغتصب الذي له فوق قداسة ذكريات الطفولة السعيدة قداسة الماضي التليد: ماضي البطولة وبذل النفوس من أجل الخلود. . .