هنالك في إحدى بقاع السودان عند ملتقى النيل الأبيض بالأزرق قضت فتاة سني الطفولة التي مهدت لها الطبيعة هناك كل وسائل اللهو والنعيم، فحبتها ببساط لا نهاية له من الرمال الذهبية تنطلق فيه انطلاق الظبي في الفلوات. . كما زودتها بأشجار باسقة من دوم ونخيل وساسبان كانت رؤوسها حصناً منيعاً للطفلة التي كانت تهرع لتسلقها بمهارة القردة وخفة النسانيس إذا أصابها ذعراً أو لحقها وعيد! ولطالما وجدت الطفولة في أمطار السودان الغزيرة وسيوله المندفعة التي تكتسح الدور والأشجار والناس ما يثير اللذة والخوف معاً. . ومن ثوران الزوابع والعواصف التي كانتتنافس السيول في الجبروت وكثرة الأسلاب، كانت تستمد الطفولة الطليقة نوعاً من التسلية الممزوجة بالدهشة، وتنصت باهتمام إلى دوي العواصف وقصف الرعود التي تعلمت كيف تأنسن بها بعد أن تغلق الأبواب والنوافذ دونها! والحر على شدته وقسوته لا يضير الطفولة، لأنها بالنهار تلهو برؤية الطيور الفاتنة التي تنطلق أمامها مداعبة ومحاورة، فتطلق على ذات الريش الأخضر منها (عصافير الجنة) والأحمر (عصافير النار) وان كانت لا ترعى حرمة الأولى ولا تخشى حرارة الثانية! بل تجد في اللحاق بها دون جدوى. . على أنها سرعان ما تشعر بالجهد فتتجه دون ندم إلى مداعبة الغزلان الوديعة الجاثمة في الظل أو معاكسة الببغاء الثرثارة أو القردة والنسانيس المتمردة. . التي قلما تخلو منها حديقة من حدائق منازل السودان. . . وفي الأصيل عندما يهب عليل النسيم وتنخفض جذوة الحرارة ويسمع نعير السواقي يمتزج بأغاني السودانيين الرقيقة على ضفاف النيل، وتمتطى صهوة مهر أو حمار وتندفع بين الأدغال بمحازاة النهر العظيم بينما تتناثر عليها سلاسل ذهبية من أشعة الشمس المائلة للغروب. فتطل عليها من بين غصون الشجر مودعة وتكر راجعة إلى حيث تجتذبها أصوات الرفاق اللاعبين فوق بساط الرمل الوثير. . وسرعان ما تنبثق النجوم في القبة الزرقاء. . ويتهادى القمر حتى يستوي على عرشه المتلألئ في صدر السماء. . بينما تتعالى تهاليل الأطفال البيض منهم والسود سواء. . لأن الطفولة تسمو فوق فوارق الألوان والأديان والأجناس. .
وهكذا كان يسود التفاهم والوئام بين الطفولة والطير والعجماوات والأشجار والعواصف والأمطار والناس - في حين كانت رتع آمنة في ذلك الفضاء غير المحدود الذي حبب إليها