أكثر الناس في هذا الزمن يعتقدون أن الموسيقى (علم) ككل العلوم لها قواعد ومبادئ، ولها مناح ونواح متشعبة متفرقة لا يمكن جمعها وهضمها إلا بالبحث والفحص والدرس، بل هم يعتقدون أكثر من هذا؛ يعتقدون أنها تخضع للدأب والكد، وتعطي سرها وسحرها لمن يتعب أكثر من غيره في طلبها. . .!
وليس هذا في مصر والشرق فحسب؛ بل في جميع بقاع العالم، وفي كل البلاد التي بلغت ذروة الحضارة وأدركت نهاية المدنية. . . فهناك المدارس المختلفة، والمعاهد المتباينة، والجامعات المختصة في تدريس كل (مادة) من مواد الموسيقى؛ وهناك الأساتذة الذين قطعوا كل عمرهم أو جله في التخصص والانقطاع لتجويد ناحية واحدة يكررونها صباحا ومساء. . . حتى (الصوت) استطاعوا أن يوهموا الناس أن في مكنتهم السيطرة عليه بل وخلقه خلقاً جديداً. . .!
ولكن هذا ليس من الواقع في شيء، فإن كان للموسيقى فروع وأصول، وقواعد ونظريات، فليس معنى هذا أن كل من يلم بها أو يهضمها يسمى (موسيقياً) أو فناناً يعبر عن خوالج الناس بروحه الشفافة الملهمة.
الموسيقى ليست مهنة تعلم، ولا حرفة تجاد، ولا صنعة تكتسب، وإنما هي فن وإلهام كما قلت في رأس هذا الكلام. . . هي إلهام لأنها أسمى من أن تخضع لقوى البشر الذي يخضع لها، وهي قوة سحرية روحية تفعل في النفوس ما لا تفعله قوى الأرض مجتمعة متضامنة. . . فهي تضحك وتبكي، وتفرح وتحزن، وتسعد وتؤلم في لحظات، فهل ثمة قوة إنسانية (مكتسبة) تستطيع أن تملك مثل هذا السحر؟
إن (العالم) الذي يقسم لك الموسيقى إلى قواعد غربية وقواعد شرقية وموشحات وادوار ثم يقول لك أن الموسيقى عبارة عن (دواوين) وان كل ديوان له درجات أساسية و (نيمات) وعربات و (تيكات) وان بين اليكاه والعشيران كذا من المسافات، أو أن يقول لك إن الديوان الأول (مثلاً) يحتوي على ثلاثة (تكوك) وسبعة عربات. . . الخ ويروح مقارناً بين