للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[٤ - الانتحار]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال المسيب بن رافع: ومد الإمام عينه وقد رفع له شخص من المجلس؛ ثم جلى بنظره كأنما يتطلع إلى عجيبة كالحق إذا بطل، والصدق إذا كذب؛ ثم رد بصره علي كأنه يعجبني من عجبه؛ ثم سجا طرفه كأنما أنكر رأى عينيه فهو يلتمس رأى قلبه. وتبينت في وجهه انقباضاً خيل إلى أن الشيطان جاءه بهذا الرجل يفحمه به يريه كيف يجعل أحد المؤمنين الصالحين يتحمس في دينه ليرجع بعد ذلك أصلاً لا غنى عنه في إنشاء قصة كفر!

هذا هو ضيفنا (أبو محمد البصري) يتخوض الناس ليجيء فيحدثنا حديثه في قتل نفسه والأثم بربه؛ فلو قيل لي: إن قوس السماء بأحمره وأصفره وأزرقه وأخضره، قد وقع إلى الأرض واصطبغ من ألوانه أوحالاً وأقذاراً - لكان هذا كهذا في تعاظمه وإنكاره والعجب منه؛ فأبو محمد من الرجال الخمس الذين لو كفر أحدهم ثم قيل (إنه كفر)، لقصر اللفظ أن يبلغ الحقيقة أو يصف شنعتها، كما يقصر لفظ الجنون عن وصف حكيم تآلى أن يعمل عملاً يخرج به من الكون، فلا يبقى في أرض ولا سماء ولا تناله يد الله! إن يف لفظ الكفر مع ذاك، وفي لفظ الجنون مع هذا - شيئاً من نفاق العقل وتأدبه في أداء المعنى الأخرق الذي لا يشبهه جنون ولا كفر

ونعوذ بالله من خذلانه؛ فلقد يكون الرجل المؤمن في تشدده وإيغاله في الدين - كالذي يصنع حبلاً يفتله فتلاً شديداً فيمره على طاق بعد طاق، ليكون أشد له وأقوى، ثم يجاذبه الشيطان حبله، فإذا هو كان في الوهن مثل العنكبوت اتخذت بيتاً في سقف حداد؛ فرأته يصب الحديد المصهور يجعله سلسلةً حلقةً في حلقة، فذهبت تحكيه وترسل من لعابها خيطاً في خيط تزعمه سلسلة. . .!

إن مع كل مؤمن شيطانه يتربص به، فلهذا ينبغي للمؤمن أن يكون في كل ساعة كالذي يشعر أنه لم يؤمن إلا منذ ساعة، فهو أبداً محترس متهيئ متجدد الحواس مرهفاً يستقبل بها لدنيا جديدة على نفسها بين الفترة والفترة؛ ومن هذا حكمة أن يؤذن المؤذن وأن تقام الصلاة مراراً في اليوم، فكلما بدأ وقت قال المؤمن: الآن أبدأ إيماني أطهر ما كان وأقوى

وقال الأمام هيه يا آبا محمد! فقال البصري وقد رأى الكراهة في وجه الأمام: لا يفز عنك

<<  <  ج:
ص:  >  >>