النهار طويل ممل، والقيظ لافح محرق، وقد هجم رمضان والعاشق النهم لا يعذر في محبته. فكم من أكول هده العشق، وبراه الوجد، ثم هو لا يقدر على التصريح بما يختلج في صدره لما وقر في نفسه أن القلب لا يتسع للطعام والغرام، وقد يكون نبيها فطنا فيحاول أن يوفق نهمه وولهه فيأتي بما يسميه البديعيون حسن التعليل، كان يقول:
وإن طعاماً ضم كفى وكفاها ... لعمرك عندي في الحياة مبارك
فمن اجلها استوعب الزاد كله ... ومن اجلها أهوى يدي فأدارك
وأنا لا ادري لماذا تنكر الصبوة من هؤلاء؟ ولهم عيون تنظر وقلوب تخفق!! ويخيل إلي أن كراهية الناس للأكول جعلتهم يستنكرون جميع ما يأتيه، ولو كان عاديا مألوفا وإلا فهال من المنطق الصحيح أن يقول الشاعر في صديقه النهم:
ويعجبني من جعفر أن جعفرا ... ملح على قرض ويبكي على ُجملْ
فلو كنت عذري العلاقة لم بيت ... سمينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
ثم ما هي العلاقة بين الحب والامتناع عن الطعام؟ الحق أن هذا منطق غريب!
ومن جماعة الشرهين من يستغل ذاكرته القوية فيشحنها بشتى الأخبار والأحاديث فإذا استضافه إنسان اخذ يعرض معلوماته عرضا، فما يدع صغيرة أو كبيرة مما اختزنه في رأسه إلا كررها مثنى وثلاث ورباع، فيضيف إلى ثقل بطنه ثقل حديثه، وهنا يتضاعف البلاء وتعدد الكارثة وفي هذا الطراز المتكلم يقول حميد بن الأرقط:
يسطرون لنا الأخبار أو نزلوا ... وكلما سطروا للقم تمكين
باتوا وقصعنا الصهباء بينهم ... كان أيديهمو فيها سكاكين
والغريب أن ألسنتهم تنعقد غب الطعام فما يكادون ينطقون بكلمة واحدة بعد التشدق والتفيهق، وكان ازدحام المعدة قد عطل مجرى التفكير، وأوقف دولاب النطق - وقتا ما -