(بحث نشرته مجلة العصبة البرازيلية في عددها الممتاز)
للأستاذ توفيق ضعون
لما كنتُ من عشَّاق الشعر السائغ، السهل المبني، الواضح المعنى، المؤدي صورة صادقة من عاطفة ناظمه وهدفه في الوجود، ومن كارهي الإغراق والتعقيد ومواراة المعنى المقصود وراء أكثف الحجب التي لا تخترقها البصيرة ولا تعين على استجلائها كتب اللغة ومعاجمها، بحيث يصبح الشعر كناية عن رموز وطلاسم لا يحلها إلا الله والراسخون في العلم - فلا بدع أنني كلما وقعت في يدي جريدة أو مجلة رحت أقلب صفحاتها علّي أعثر على سطور مشطرة فأقرأ مطلعها راجياً أن يستدرجني إلى قراءة ما يليه وإلا اكتفيت به وقلبت الصفحة آسفاً، نادماً على الوقت الذي أضعته، لأن المطلع عندي بمثابة الوجه الذي قد تستهويك النظرة الأولى إليه فتقبل على صاحبه، أو تنفرك فتعرض عنه
وكان خير ما يستهويني، نظراً إلى استيفائه الشروط المقدم ذكرها، شعر حافظ إبراهيم، فلما ارتحل عن هذا الوجود أخذت أفتش في صفحات المجلات المصرية عن خليفة له أجلسه على عرش إعجابي واحترامي فلا أجد، حتى وقع يوماً في يدي جزء من مجلة الرسالة التي وجدت فيها ضالتي من حيث الأدب العالي والثقافة العميقة الدقيقة، فقلبت بعض صفحاته وإذا بي أعثر على أبيات من الشعر استهواني مطلعها واستدرجني إلى الإتيان عليها حتى ختامها. وكنا في إدارة (العصبة) فرحت أتلو على مسامع الإخوان تلك الأبيات التي لمست فيها روح حافظ وأسلوبه الطلي الأخاذ فشاطروني رأيي. وطفقت منذ ذلك الحين أتلمس آثار محمود غنيم الأدبية في تلك المجلة الغنية بنتاج أدمغة المجلين في مضمار الأدب في ذلك القطر السعيد
وعلمت بعد التنقيب أن محمد غنيم مدرس في كوم حماده إحدى قرى الصعيد (الصواب أنها في مديرية البحيرة) يحمل شعره المجنح شكواه من سوء حاله وضيق مجاله، فهو يحسب نفسه سجيناً في تلك القرية يتوق إلى الإفلات منها ولا توق الطائر الغريد إلى الإفلات من قفصه ولو كان من ذهب فكيف به وهو من معدن بخس وخشب. مجال ضيق وعيش على وتيرة واحدة يسئم النفس، وعشرة لا مطمع فيها للأديب الذي يؤثر تغذية روحه على تغذية