منذ عام نزل الشاعر العرقي الكبير الأستاذ محمد مهدي الجواهري ضيفا كريما على مصر، وقدمته الصحف المصرية إلى قرائها تقديما ينبئ عن مكانته الأدبية الممتازة في عالم الشعر، وكنت أقابل كثيرا من الأدباء والمثقفين في ربوع وادي النيل، فأجدهم لا يروون شيئا من قصائد الشاعر العراقي، ويتطلعون في لهفة وشوق إلى أثر من آثاره فلا يجدون، إذ أن الصحف المصرية لم تنشر له قبل ذلك ما يصله بالقراء والمتأدبين. وأذكر أني فتشت في كثير من مجلاتنا الأدبية فلم أعثر على شيء يذكر، إذا استثنيت ثلاث قصائد نشرت في آماد بعيدة متفرقة بأبولو والرسالة والكاتب المصري. وزاد الطين بلة أن الكاتب الفاضل الأستاذ عبد الخالق طف نشر بمجلة الثقافة الغراء (يونيه سنة ١٩٥١) مقالين كبيرين عن الشاعر العراقي، فأعطى القراء بمصر عنه فكرة غير تامة، إذ اعتمد في بحثه على ديوان الشاعر الصادر في أوائل سنة ١٩٣٥ مع أن الجواهري لم يبرز في مضمار الإبداع إلا بما قاله بعد صدور هذا الديوان من قصائد عامرة ممتازة تحتل مكانها اللائق في الأدب والتاريخ. وكأن الكاتب قد أحس بتقصيره فوعد القراء أن يطالعهم ببحث جديد عن الشاعر في عهده الأخير، ومضى أكثر من عام دون أن يفي الأديب بما وعد؛ فرأيت لزاما على أن أقدم الشاعر للقراء من جديد.
وقد طرق الجواهري أبواب الشعر فنظم في الغزل والرثاء والوصف والسياسة والاجتماع، غير أنه تبوأ مكانته الأدبية بقصائده السياسية التي عبرت تعبيرا صادقا عن مشاعر العرب في شتى بقاع العربية. والحق أن الشعر السياسي قد أرتفع على يده إلى قمة عالية أعادت إليه سابق مجده في مطلع هذا القرن، حين كان حافظ ونسيم والمصري والكاشف ومحرم وعبد المطلب في مصر والزهاوي والرصافي والكاظمي في العراق، يهزون المشاعر هزا عنيفا بما يبدعونه في هذا المضمار، فلم تكن ثمر حادثة كبيرة أو صغيرة إلا رأيت لها