صدى قويا يبعثه الشعر السياسي في النفوس، وقد نضطر إلى إيجاد فارق هام بين ما قاله شعراء العراق في الميدان السياسي وما قاله شعراء مصر، فأولئك كانوا قادة جماهير، وموجهي نفوس، بقصائدهم الحماسية، وهؤلاء كانوا صدى لما يتجاوب في الميدان السياسي فحسب، فهم ينظرون إلى اتجاه الشعب وميوله ثم يعبرون عن مشاعره، دون أن يسبقوه بإيقاظ وتوجيه، وقد بقي هذا الفارق إلى يومنا هذا، فلديك فرق شاسع بين ما يقوله الجواهري في قصائده السياسية، وبين ما نطالعه لشعرائنا المصريين في الأفق السياسي على قلته وندرته، بل أخشى أن أقول أن الشعر السياسي قد مات موتا على يد هؤلاء الهائمين في آفاق الخيال، ومتاهات الذهول. ولولا كارثة فلسطين وحوادث القنال الدامية لما سمعت لهم شيئا يذكر على الإطلاق. وسيجد القارئ لشاعرنا العراقي سبقا ظاهرا حين يستعرض خرائده الجياد، ونحن نجمل هنا الحديث عنه في أغراض محدودة، كيلا تتشعب بنا الدراسة إلى منادح شاسعة لا نستطيع أن نحيط بعوالمها الرحبة الفسيحة، ونبدأ بالحديث عن فلسطين الشهيدة! فمأساتها الفاجعة أحرى بكل تقديم.
لا جدال في أن فلسطين قد هزت عواطف العرب هزا عنيفا، فترقرقت دموعهم حارة ملتهبة، واتقدت جذوات الحزن والحسرة في جوانحهم المشتعلة وقام الشعراء في شتى الحواضر العربية بتخليد المأساة واستنهاض الهمم، وقد طالعت أكثر ما قيل في هذا الكارثة الدامية، فوجدت ما ينبئ عن صدق الشعور، ولوعة الإحساس، في طراز باهت لا يخرج عما قيل منذ قرون في مأساة الأندلس، وكأن الشعر قد رجع بأصحابه إلى الوراء فلم يتقدم خطوة واحدة، عما كان عليه منذ ضياع هذا الفردوس البهيج، فقصارى كل شاعر أن يسترجع ويولول دون أن يشرح البواعث الأصلية للنكبة، ويحلل الكوامن المقنعة من وراء الحجب والأستار، وقد ربأ الجواهري بأدبه أن يقف عند الصراخ والعويل، فاندفع ينقب عن الصلال الخبيثة التي نهشت هذا العظم الرميم، ونفثت سمها القاتل في الجسم الهامد فخر صريعا لا حراك به. ورد النكبة إلى ثلاث عوامل بارزة كانت السبب والحقيقي في وقوع المأساة، وأقوى هذه العوامل إنجلترا الغادرة! فقد لبست ثياب الدهاء فأظهرت الوقوف على الحياد حاشدة وراءها جيشا عنيفا من الحقد والنفاق والابتسام! مغلفة أسرارها الخبيثة عن الأغرار من القادة والزعماء، وقد وجدت أمامها - لسوء الحظ - فريقا يهيم بحبها في