للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[في ملعب الكرة]

للدكتور محمد عوض محمد

. . . وفي ذلك اليوم ذهبت بصديقي إلى ملعب الكرة. . . لم أذهب به إلى دور العلم أو إلى حلقات الأدب، حيث ينصت إلى لجاج الفقهاء، وحوار الأدباء؛ فلقد طَعِمَ من هذا الغذاء الدسم الشهر كله: وشهد المعركة الطاحنة بين اللائحة والشرعة، وبين الأريكة والسرير؛ وبين الفنون الرفيعة والغليظة؛ وبين الفتوة والمروءة، وبين الكوفة والبصرة، وبين المستشرقين والمستغربين. . .

انتزعتك يا صديقي من بين هذا كله. فلعمري لقد آن لك أن تمسح عن جبينك المجهد المعنى عرق النحو والصرف والفقه، وأن تزيل عن عينيك ما علق بهما من قذى البحث العميق، عن اللفظ الدقيق والمعنى الأنيق: ذلك البحث الذي طالما ما أضناك وأذواك؛ ثم عدت منه صفر اليدين، أو رجعت بشيء زهيد لا يطفئ غلة، ولا يغني من جوع.

فتعال اليوم نتبوأ هذا المقعد العالي، ونشرف منه على هذا الميدان الفسيح، كما يشرف النسر من ذروة الطود. ولنرقب ما يجري بين أيدينا من الحوادث الجسام. . . أراك تبتسم ابتسامة الشكل أو الإنكار، كأنما تظن أن ما يجري هنا ليس إلا ضرباً من العبث واللهو؛ فلا وأبيك لن تبرح حتى تشهد في هذا المعلب من دروس الحكمة ومن عبر الحياة، ومن المعاني البديعة العميقة، ما لم تجده بعد في الكثير من أسفار أصحابك الخالدين. . .

وها هم أولاء اللاعبون قد أقبلوا، فدوى رعد الهتاف والتصفيق، أرأيت هذه الأجسام الفتية التي أفعمت صحة وقوة، والتي لا تكاد تستقر في مكان مما بها من نشاط ومرح ولكنها قد تثبت في موقفها حينا فكأنها الجبال الرواسي. ثم تنقض على الأثر كأنها صخور تهوي من قمة طور؛ أو تندفع طائرة كما تندفع السهام عن القِسِيِّ. وهي بعد هذا كله لا تشكو كلالا ولا ملالا، كأنما يتفجر نشاطها من ينبوع لا يغيض. . إن هذه السيقان التي تراها تحمل تلك الأجسام ما نمت هذا النمو ولا اكتسبت تلك القوى في يوم أو بعض يوم. . بل هي ثمار المران الطويل شهوراً وسنين. وليس من هؤلاء الفتيان من لم يأخذ نفسه بأنواع من الجد والدأب وبالحرمان من ضروب اللهو والعبث، كي يبلغ هذه المرتبة العالية من القوة ومن الرشاقة؛ ومن جمال الفتوة، والرجولة الصحيحة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>