صفحة ناصعة من تاريخ الأدب العربي. صفحة ذات معان ومزايا متنوعة يقف السامع بازائها حائراً مبهوتاً كأنه يتسمع إلى ألحان من الموسيقى الإلهية، بل نغم ينبعث من أجواء علوية، كأنه الإلهام الذي يستولي على الدماغ ويمتزج بالفكر فيكون سحراً. تلك هي حال القليلين الذين يضن الدهر ولتاريخ علينا بهم لأنهم مثلوا عصوره. بهم تفيض علينا معاني النبوغ والعبقرية تلك المعجزة الإلهية؛ وهذا شأن العظمة التي يخلقها العظيم فيعظم عصره؛ وهكذا تنطوي عندئذ صفحة من صفحات التاريخ وسفر جليل من السفارة يكون رمزاً للحياة الماضية والحاضرة. وهذا ابن الفارض الشاعر الرقيق المفتون بالعزة الإلهية بشعره، العابد للجمال الرباني بمنظومه، فهو شاعر العاطفة الذي يثير ما في القلب من الأحزان والمآسي التي طبعتها صروف الأيام. يريك ابن الفارض ألواناً من شعره تلذ لك فتبحث عن الرقة والخيال وكل ما هو جميل في الكون من المبهجات. هو الشاعر المبدع الفيلسوف في وصف الحب والجمال. وهل من شيء سواهما أعز لدى المرء في الحياة الدنيا؟ لا أظن شاعراً من الشعراء المتأخرين ممن سلك مسلك ابن الفارض في شرح معنى الحب والجمال وما يجلبان على المرء من سوء المصير إذا ما عسر عليه وجدانهما أو فقد أحدهما. فهو الذي افتن في وصف الحبيب والحنين إليه إذا ما غاب، وفي وصف آلام المحب إذا ابتلى، وفي خضوع الإنسان للجمال جمال الحبيب الذي يخلب اللب ويذيب الأحشاء. كل هذه الأوصاف تعمق ابن الفارض في تحليلها وسبكها في قوالب شعرية يعجز القلم عن نعتها. وهانحن أولاء نأتي باليسير منها لضيق المقام. أما مختصر ترجمة فهو الإمام العارف بالله الشيخ أبو حفص أبو القاسم عمر ابن أبى الحسن ابن المرشد بن علي الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، المعروف بابن الفارض. ومعنى الفارض أنه يكتب الفروض للنساء على الرجال، كما جاء في كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان. كانت ولادته بالقاهرة في الرابع من ذي القعدة من سنة ٥٧٦هـ في عهد صلاح الدين الأيوبي، وله ديوان شعر لطيف وأسلوبه فيه طريف ظريف؛ وقد أبدع وأجاد بالمعاني والعبارات الرقيقة، وشع بشعره في الأفكار كالشمس في رائعة النهار، وكان رجلاً صالحاً كثير الخير