يعجب قوم أشد العجب من هذه الأمم المتحاربة، ويرون أنهم أصيبوا بنوبة جنونية، أو بخذلان لم يكونوا ليصلوا إليه إلا بغضب من الله وخزي من الشيطان؛ وإلا فبأي حجة يسفك بعضهم دماء بعض، ويحشدون قوى الطبيعة للقتل والتدمير؟ ألم يكونوا في حياة كلها لين وكلها رفاهية؟ ألم يكونوا سعداء في ظلال الأمن؟ ألم تفتح عليهم بركات السماء، وتدرَّ لهم خيرات الأرض؟
لم تكن لذة من اللذائذ إلا وهي في متناول أيديهم؛ ولم تكن سعادة إلا وهي طوع بنانهم، فتكوا الجنة مريدين، ودخلوا النار عامدين، وهاهم أولاء يصلوْن بحرِّها، ويلفح وجوههم لهب سعيرها.
وفي الحق أن الحجة قائمة والبرهان قوي، لو أن الناس جميعاً يفكرون هذا التفكير ويصدرون عن مبدأ واحد، ويؤمون غاية واحدة.
لكن الواقع أن الناس يصدرون في هذه المشكلة عن مبدأين متناقضين؛ فنظر كل فريق إلى الحياة نظراً يخالف نظر الآخر، وخيل إلى كل واحد أن الآخر مجنون لا يعرف صالحه، ولا يدرك حظه. . .
هذان المبدآن هما: إرادة الحياة، وإرادة القوة: فمن الناس ومن الأمم من يريد من دنياه هذه الحياة، يبغيها ويتوخاها ويحافظ عليها كيفما كانت وكيفما وقعت.
ومن الناس ومن الأمم من يريد من دنياه القوة، فهو يؤثر أن يكون قوياً في الحياة، ولا يعبأ بالحياة إن فقد القوة، وبطن الأرض خير له من ظهرها إذا لم يكن قوياً؛ فإذا رأى مريدو الحياة مريدي القوة يأكلون ويشربون وينعمون، ثم هم يتركون هذا النعيم، ويحلّون أبدانهم لتمزيق القنابل، وإحراق النيران، عابوهم وزروا على أفكارهم ورموهم بالعته والجنون.
وإذا رأى مريدو القوة مريدي الحياة راضين بالحياة غير عابثين بالقوة، خالوهم كلاباً طوقت أعناقهم بالذهب، أو موتى في أكفان من حرير.
فليكف مريدو الحياة عن تفنيد مريدي القوة، وليكفكفوا عبراتهم على من مات منهم، فلعلهم أولى ممن مات بهذه العبرات، وإذا فكروا في لومهم وتفنيدهم فليذكروا قول المتنبي: