دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع كثرة الكلام عن الإلحاد وضروبه وشيوعه بين الشباب ومدى أخذهم به واعتناقهم له. لذلك أزمعت الكتابة فيه؛ على أن تناولي إياه إنما سيكون من جهته الفلسفية الخالصة إلى جانب مناقشة تحت ضوء العلم الحديث.
وروح المذهب المادي الذي هو دعامة الإلحاد تتلخص في اعتبار المادة أساسا للموجود من حيث هو موجود، واعتبار قوانينها أساسا لأغراض الموجود؛ فإن سئل أصحاب هذا المذهب بأي اعتبار كانت قوانين المادة أساسا لأعراض الموجود؟ أجابوا. . باعتبار الاتفاق والضرورة معا. . الاتفاق في تصادم هذه القوانين، والضرورة في تفاعلها وصيرورتها؛ ومن ثم ظهور الموجود في حالة جديدة مغايرة للحالة الأولى من حيث الشكل.
ويلزم عن هذا كله أن يكون الوجود ميكانيكيا صرفا باعتبار نتيجة حتمية عن أسبابها، خالية من شوائب الشذوذ. هذه هي روح المذهب المادي بمنتهى الإيجاز والتركيز، ولم يبق أمامنا الآن أن نشاهد روح هذا المذهب تحت أشعة النقد.
أولا. . أنني في حدود معرفتي لا أملك المادة في ذاتها وإنما أملك صورة للمادة سواء أكلية كانت صورة جزئية أم صورة، وعلى ذلك فإقامة مذهب مادي محض باعتبار المادة في ذاتها على أساس تصوري هو من باب التناقض وهو خلف. فإن أرادوا تفادى هذا التناقض بالمطابقة بين الصورة والأصل معتمدين في هذا على مذهبهم التجريبي فأنهم في هذه الحالة سيطابقون بين صورة المادة وصورة المادة، وهذا تحصيل حاصل وفشل فاضح في الوصول إلى نتيجة حاسمة.
ثانيا. . المنهج الحسي هو أداة المعرفة عند المادية. ومما هو ذو مغزى أن المادية بهذا الوضع في حالة لا تحسد عليها. فالمعرفة الحسية أدنى مراتب اليقين إن لم تكن خارج حدود اليقين على الإطلاق. . ثم أنني الآن أمام مكتبي وهاأنذا أكتب هذا المقال وليس عندي أي شك في وجود مكتبي أمامي ووجود قلمي بين أصابعي، ولكن مع هذا فالمجنون أيضا يجزم لك أنه قابل النبي عليه السلام منذ هنيهة، وأنه الآن بجانب حبيبته. وعبثا تحاول أن ترده عن مثل هذه الترهات فإنه على يقين من ادعائه أنه يرى حبيبته الآن