ثم ما رأي حضرات الحسيين الأفاضل في قطرة الدم التي أراها بعيني المجردة حمراء اللون فإذا رأيتها تحت المجهر لاحت لي في كرات بيضاء وكرات حمراء؟ إن الحواس لتتناقض في غاية السرعة لمجرد مضاعفتها. ومن يأتمنها بعد ذلك؟ أليس يجوز في العقل أننا لو وصلنا إلى مضاعفة قوة هذا المجهر لظهرت لنا كرات بيضاء وكرات حمراء وثالثة صفراء ورابعة خضراء. . . ابعد هذا تكون الحواس طريقا قويما إلى معرفة يقينية؟
ثالثا. . إذا سلمنا جدلا بأن المادة في ذاتها مبدأ وجودي فأننا لا نستطيع أن نعتبرها المبدأ الوجودي الوحيد، وذلك أننا إذا تأملنا الفرد الإنساني وجدنا تركيبه الكيماوي وقوامه البيلوجي في سن الطفولة غيره في الشيخوخة. وبرغم هذا نراه محتفظا بذاتيته من حيث هي مما يدل على أن الذاتية جوهر مغاير لجوهر المادة وأنه شيء له كيانه الوجودي غير المترتب دائما على الظروف المادية البحتة.
رابعا: لا يمكننا بأي حال من الأحوال قبول الميكانيكية ناموسا للكون، لأننا نجد في الإنسان من حيث هو إنسان شيئا يتعالى على الميكانيكية. . نعم. . الإنسان من حيث هو، ثم من حيث أنه عنصر من عناصر هذا الوجود لا نجده يندرج تحت الميكانيكية ألبتة. ويكفى للتدليل على دعوانا ما قرره فريق من علماء النفس أن الإرادة عنصر جوهري من عناصر النفس الإنسانية. ويجعل بالقارئ العزيز أن يدرك جيدا ما أقصده بمعنى الإرادة هنا؛ فأنني أعنى بها الإرادة السيكولوجية الخالصة التي يدركها كل منا بإحساسه العميق بها. إذ أنها تفرض نفسها فرضا، ومن ثم وجب عدم الخلط بين الإرادة في ذاتها ومدى أثرها في حيز الواقع العملي.
خامسا. . النظرية المادية القائلة بالصدفة نظرية واضحة البطلان من جهة أنها لا تقوم على أساس سليم. ولكي يتضح لنا هذا يجب أولا أن نوضح ماهية الصدفة وعلاقتها بالفعل الذي يخرج عنها. فالصدفة اتفاق أسباب ما للوصول إلى نتيجة ما بدون سابق قصد أو عمد أو إصرار. والقصد هو اتفاق أسباب ما للوصول إلى نتيجة ما مع سابق القصد والعمد والإصرار. فالفرق بين الصدفة والقصد إنما يتركز حول مبدأ الأسباب المعينة التي أدت إلى هذه النتيجة المعينة التي هي واحدة في كلتا الحالتين. وعلى ذلك لا يصح أن نستغل