في أمسية من أماسي سبتمبر الجاري، وعلى شاطئ مدينة سمنود، في جلسة حالمة ضمتني أنا والأستاذ أبو الفتوح عطيفة، أخذ الأستاذ يحدثني عن الآثار الفكرية التي تركتها في نفسه إحدى زياراته للقاهرة، وأخذت أصغي إلى حديثه الرقيق الدسم. . وفي لفتة من لفتاته المشرقة، انطلق يحدثني عن الأثر الذي تركه الشاعر الشاب صالح شرنوبي في نفسه، حين سمعه للمرة الأولى في جمعية الشبان المسيحيين ضمن جماعة من شعراء الشباب، وقد كان فيهم من المبرزين، إن لم يكن أبرز شخصية وأميزها بينهم جميعا.
قلت للأديب معقبا على لفتته تلك: إنني آمل أن يسد هذا الفنان الشاب ثغرة تركتها في الشعر العربي وفاة علي محمود طه، إذ أنني في الواقع أنظر إليه بعين الأمل في مستقبله، ذاك الذي يلوح لي مشرقا باسما من وراء الإرهاصات الطيبة التي أراها فيشهره وخصوصا وأنه ما زال في ريق شبابه، وميعة عمره.
ومضى ذلك اليوم، وفي صباح اليوم التالي، وبينما أتصفح جريدة الأهرام، لفت نظري في صحيفة الوفيات اسم الفنان المبدع وقرأت. . فإذا بالشاعر الذي كنا نتحدث عنه بالأمس قد شد راحلته إلى هناك. . إلى عالم الفناء، أو قل عالم الخلود.
لقد كانت لحظة رهيبة أشد الرهبة على نفسي، عنيفة أقسى العنف على شعوري، تلك اللحظة التي قرأت فيها النبأ المؤسف. . لقد وقع علي وقع الصاعقة التي زلزلت كياني كله، وأشعلت في أعماقي كوامن الشجن، ونكأت في روحي جرحا عميقا كاد أن يندمل. . أجل! لقد حملني هذا النبأ على جناحه هناك. . إلى صفحات الماضي القريب للأدب العربي، فمنذ مطلع الربع الثاني من هذا القرن، وحظ الأدب العربي سيئ إلى حد يدعو إلى الأسف، فكلما لاح في أفقه نجم، وتطلع الحيارى إليه على أمل أن يكون بزوغه هدى لهم. . كلما لاح هذا النجم وبدأ ضوءه يملأ الآفاق، ويخترق حجب الظلام، ويشق طريقه إلى القمة، استيقظ الحالمون بعد قليل غفوة على حقائق الواقع المخيفة، وأفاق السكارى ليروا جثة باخوسهم أشلاء ممزقة ولما يرتووا بعد من كأسه المحطمة أمامهم في فناء الحانة الكئيبة الشاحبة.