بعد أن امتحن العرب تلك المحنة القاسية بفلسطين، فكانت لهم - وا أسفاه - نكبة ومأساة، شطرت الأمة العربية اشطاراً متناحرة، ودولاً متنافرة، وقضت على شعب كريم بالتشريد والفناء، وألقت به منبوذاً بالعراء، يقاسي مرارة المهانة وألم الحرمان، وينتظر رحمة الضمير الأوربي في مؤتمر (لوزان)، بعد هذا كله انصرفت الأقلام عن الكتابة في موضوع فلسطين، وآثرت أن تجنح إلى الراحة، وتثاءبت على أوراق الكتاب، أو عاد بعضها سيرته الأولى، يكتب ما لا غناء فيه، ولا طائل تحته، ولا جدوى منه مما لا يمس أدواء الأمة الخطيرة، أو يصور مآسيها الدامية، ونكبتها الماحقة. . . وكأن فلسطين - إبان المعارك فيها - كانت لبعض الأقلام الفاترة، رفداً أنقذها من مسغبة، وأحياها من موات، ذلك لأن من خطل الرأي وفساد الذوق - ولا شك - أن تشغل (فلسطين) الدنيا كلها، والعالم العربي خاصة، ثم لا تشارك أقلامهم الناس فيما هم فيه، ولا تبض - على الأقل - ببعض كلمات، تنير السبيل، وتبصّر الضال، وتهدي الحائر. . . وكأني بهؤلاء كانوا يضيقون ذرعاً بهذا الموضوع الذي طال الكلام فيه، والجدل حوله، فكانوا - كما أحسب - يتلمسون منه خلاصاً، فلا يجدون منه مناصاً، حتى إذا ما انقطع زئير المدافع، ودوي النسور، وأذعن العرب لهذه (الهدنة) الممقوتة، هادنت أقلامهم هذه الموضوعات ورجعت إلى الشواطئ والحانات، تصف الأجساد العارية، والأقداح الدافقة، والرقص والابتذال، ومسابقات الجمال. . . ولولا أن (الرسالة) الغراء تنقل إلينا بين فترة وأخرى، بعض المقالات الرائعة في هذه الموضوعات الحية، من كتاب مجيدين، وأدباء يقظين، لأوشك القارئ العربي أن تعظم محنته، وتكبر بليته، فيرى اسم (فلسطين) يحتضر - الآن - على أسنة الأقلام، كما احتضر - من قبل - على ألسنة بعض الحكام.
ذكرت هذا حين قرأت ذلك المقال الرائع (البرلمان الشعوبي العربي والاستعداد للحرب مع اليهود) للأستاذ نقولا الحداد، عاد إلى مقالات مضت، وأبحاث غبرت، وكلمات قيمة نشرت، للأستاذ الفاضل، ولأستاذنا الجليل (الزيات) ولغيرهما من أعلام البيان، ورجال الفكر. . . وعلى الرغم قارنت بين الأمس واليوم فألفيت بالأمس شعوراً دافقاً، وحماساً