لا يستطيع مثلي أن يتنكر لجلال الفكر البشري، وهو منبع شقائنا وعزائنا على السواد، ولكنني احسب أن هناك أنواعا من ذلك الفكر، فالمرء قد يفكر بخياله وقد يفكر بقلبه. والتفكير بالعقل هو ما ينفر منه طبعي وذلك لأنه ما لم يحلق الفكر إلى عالم الصور الجميلة بخيال قوي أو يرسب إلى أعماق القلب بحرارة حية لم تهتز له نفس ولا اطمأن إيمان، وإن كنت لسوء الحظ مضطراً كغيري من البشر أن أكسر في بعض الأحايين جنح الخيال وان أطفئ حرارة القلب حين لا يكون بد من أن نتناول الأمور ببرودة العقل اللصيق بالأرض.
منذ أزمة الإيمان التي صادفتني في اليفاعة كما أحسبها صادفت غيري وأنا دائم التفكير في حقيقة ذلك الإيمان. ولقد مرت بي عقب تلك الأزمة مباشرة أعوام كنت أناقش فيها كل من القي عن المشاكل التي يثيرها العقل عن وجود الله وكيف كان ذلك الوجود وعن علاقته بهذا العالم وما فيه من خير وشر. ولاشك أنني كنت ابحث عندئذ على غير وعي مني عن يقين اطمئن اليه، ولكني اعترف في بساطة أنني ما قرأت ولا سمعت ما يوجب ذلك اليقين، حتى أصابني ما يشبه الملل فلم أعد أطيق الحديث في هذه الأمور، وأصبحت كلما سألني عنها سائل أو تحدث بها متحدث بها متحدث رميته بالتفاهة وذلك بوعي مني أو غير وعي، ولكنها تفاهة لا يمكن أن أعفيه منها مهما بلغ سؤاله أو حديثة من عمق أو أصالة. ولقد حاولت غير مرة أن أتبين السر في موقفي هذا فوجدته، أو خيل إلى أني قد وجدته، في أمرين: أولهما أن العقل نفسه نشاطه الأكبر موجه إلى تقويض ذاته، فهو لا يزال يبحث عن حدود قدرته ويتناول بالشك ما يصل إليه من آراء ونظريات يعاود فيها البحث فيقوضها حتى اصبح نقده لنفسه خليقاً بأن يهدم ثقتي فيه. وثانيهما أني كنت أحس دائما في غموض أن تطاول العقل إلى ما لا يستطيعه دليل ضعف فيه لا قوة، ولهذا كم كانت فرحتي يوم سمعت عميداً لكلية الطب بباريس يقول: إن من إمارات الضعف العقلي أن نبحث بعقولنا عما لا نستطيع أن ننفذ إليه، والعقل القوي هو الذي يغرف حدود قدرته). لقد خيل إلى عندئذ أن هذه الألفاظ قد أضاءت مظلماً في نفسي، فرأيت بوضوح ما كنت أحسه غامضاً. ومنذ ذلك الحين آمنت بتفاهة من يناقشني في الإيمان بعقله فهذا رجل ضعيف