تجوز أوربا اليوم مرحلة فاصلة في تاريخها القومي والسياسي. وقد ظهرت الأعراض الأولى لهذه المرحلة الجديدة في التاريخ الأوربي عقب الحرب الكبرى، إذ قامت عصبة الأمم لتحقق أمنية عالمية، ولتؤيد مبادئ السلام والتفاهم بين الأمم، ولتحاول القضاء على الحرب كأداة للسياسة القومية؛ وقد كان قيام العصبة وما تحمل من مبادئ ومثل جديدة في السياسة الدولية، وفي علائق الأمم ظاهرة جديدة في تاريخ أوربا السياسي؛ فقد كانت أوربا حتى الحرب الكبرى تمثل من الناحية العامة كتلة معنوية موحدة، وكانت تأخذ بزعامة العالم القديم، وتحاول دائماً أن تفرض عليه حضارتها وسلطانها السياسي؛ وكانت أوربا تحتفظ باستقلالها المعنوي وسيادتها القديمة بين الشرق القديم وأممه من ناحية وبين العالم الجديد (أمريكا) وأممه من ناحية أخرى؛ ولكن الحرب الكبرى أسفرت عن ظاهرة جديدة هي تراجع أوربا عن دعواها القديمة في الاستئثار بزعامة العالم القديم، وإفساحها المجال لزعامة أمة عظيمة ناهضة هي اليابان التي استطاعت في الأعوام العشرة الأخيرة أن تقوض أسس النفوذ الأوربي في الشرق الأقصى، وشهدت أوربا لأول مرة تدخل العالم الجديد في شؤونها الحيوية؛ وقامت عصبة الأمم لتجمع أمم الشرق وكثيراً من أمم العالم الجديد مع أوربا في صعيد واحد؛ وبذلك نزلت أوربا أمام تطور الظروف والحوادث العالمية عن زعامتها القديمة واستئثارها القديم بالقيادة السياسية والمعنوية في شؤون العالم
وهذا التطور في موقف أوربا يرجع إلى الثغرة العميقة التي أحدثتها الحرب الكبرى في القومية الأوربية؛ فقد خرجت أوربا من الحرب محطمة ناضبة الموارد، وانقسمت إلى معسكرين كبيرين هما معسكر الغالبين ومعسكر المغلوبين؛ واستأثر الفريق الظافر مدى حين بالزعامة في توجيه الشؤون، فأملى على المغلوب شروطه المرهقة، وعمل على تمزيق الوحدات السياسية القديمة، وإحياء قوميات ناشئة ليحقق بقيامها أغراضاً عسكرية وسياسية؛ وبذلك مزقت أوربا نفسها، واضطرمت الأحقاد القومية القديمة أضعاف ما كانت قبل الحرب؛ وكان اضطرامها أشد في الجبهة المغلوبة أو المغبونة؛ ولم يلبث أن أسفر هذا الاضطرام عن النتيجة المحتومة، أعني الانفجار؛ فقامت الفاشية في إيطاليا ساخطة على