هذه الزعامة وهذا الاستئثار في استخلاص المغانم والأسلاب وفي توجيه الشؤون، وأخذت تعمل على إنشاء قومية إيطالية حديثة، تضطرم بمختلف الأطماع المشروعة وغير المشروعة، وتسرف في الحقد، وفي الوعيد والتحدي، وتمعن في انتهاك النظريات والمبادئ القديمة المتعلقة بالحقوق والحريات الشعبية، وتسخر من دعوة السلام ومن مبادئ العدالة الدولية. وقامت الاشتراكية الوطنية بعد ذلك في ألمانيا، وشعارها الانتصاف لألمانيا مما نزل بها من فروض مرهقة، وتحريرها من الأغلال التي طوق بها الغالب عنقها، والارتفاع بها إلى مكانتها القديمة في معترك الحرب والسياسة؛ ولكن الاشتراكية الوطنية، عملت من ناحية أخرى على إذكاء الأحقاد القومية والجنسية، بصورة لم يسمع بها، وقد فاقت الفاشية في عنف أساليبها، وفي نزعاتها العسكرية والاعتدائية، وفي سحق الحقوق والحريات الفردية، وإنكار الحقوق العامة، وفي تحدي كل مبادئ العدالة الدولية، وعادت النظرية الألمانية القديمة (الحق هو القوة) في أخطر صورها؛ ولم تشهد أوربا منذ حرب الثلاثين، والحروب الدينية موجة في الأحقاد والمنافسات القومية والجنسية أشد من تلك التي تثيرها اليوم الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية
تلك هي الظاهرة الأولى في انحلال القومية الأوربية. وأما الظاهرة الثانية فهي معركة المبادئ التي تضطرم اليوم في أوربا بصورة لم تشهدها منذ الثورة الفرنسية؛ ولقد بدأت هذه المعركة قبل نهاية الحرب الكبرى، حينما ظفرت البلشفية بتحطيم دولة القياصرة في روسيا، وأقامت مكانها جمهورية شيوعية تمثل سيادة الكتلة العاملة؛ وكانت المعركة يومئذ واضحة محدودة المدى؛ فقد كانت البلشفية في ناحية، وكانت أوربا كلها في الناحية الأخرى تناضلها وترد غزوها؛ بيد أن هذا النضال بين البلشفية والرأسمالية يغدو اليوم في المحل الثاني بالنسبة لمعركة أشد وأبعد مدى تضطرم بها أرجاء القارة الأوربية، تلك هي معركة الفاشية والديموقراطية؛ فالفاشية أو بعبارة أخرى نظم الطغيان العنيف التي تحمل لواءها إيطاليا وألمانيا، تحاول أن تغزو الديموقراطية الأوربية وأن تصرعها؛ والديموقراطية الأوربية تناضل عن كيانها بكل ما وسعت. وما زال حصن الديموقراطية في غرب أوربا: في فرنسا وإنكلترا؛ بيد أنه يمكن أن يقال أيضاً إن روسيا البلشفية تنحاز في هذا الصراع إلى جانب الديموقراطية؛ وليس أدل على خطورة هذا الصراع، مما نرى في الحرب