أهلاً وسهلاً بعلي بك!. . . كيف حالك؟. . . آنست هنا وأوحشت هناك!. . منذ كم سنة لم أرك؟. . . نعم أكثر من ست سنين!. . .
وكان هذا اللقاء المفاجئ في ميدان إبراهيم أمام (النيوبار)، فمال بنا الشيخ في حماسة الشوق ودهشة المفاجأة إلى مجلس من مجالس هذا المقهى الحاشد، ثم أخذ يسألني عن أمري حتى نقع نفسه ونضح وده. فلما طال بنا نفس الحديث عطفته مترفقاً إلى عمره المفقود، فذاكرته عهود القرية أيام الشمل جامع والحبل واصل والدار نادية! فكانت إرسال هذه الذكر - وا أسفاه - ترتد عن شعوره الأصم ارتداد الأمواج عن صخور الساحل! لقد خفت الماضي في ذاكرته خفوت المحتضر؛ فرجعه البعيد لا يكاد يبين إلا في نظرة قصيرة من عينه المنتفخة، أو نفثة طويلة من نرجيلته المكركرة.
لشد ما صنعت المدينة بهذا الرجل! كان مكتنز اللحم فترهل، ومشبوب
اللون فانكفأ، وخفيف الحركة فثقلته الأملاح، وطليق المشية فقيدته
العلل؛ ثم كان يعقد مجلسه في القرية فيكون في جلالته ديوان عرش،
وفي مهابته جلسة محكمة! يلقي النظرة مثقلة بالدلائل فتأخذها العيون
وعداً لا يخلف، أو وعيداً لا يشفق، أو عاطفة لا تكذب، ويرسل الكلمة
موقرة بالمعاني فتلقفُها الآذان أمراً لا يرد، وقانوناً لا يخالف، ورأياً لا
ينقض، فأصبح في زحمة القاهرة قطعة من الوجود المتطفل، يتسكع في
الطريق، أو يتقمع في القهوة، أو يتمطى في البيت، وليس له رأي في
أمور الناس، ولا أثر في جهاد العيش، ولا شأن في طبقات المجتمع؛
وكان بليل اللسان حافل الخاطر إذا تحدث إلى الفلاحين في شؤون
الفلاحة، فلما حاول مناقلة المدنيين أحاديث السياسة والأدب والاجتماع،
قعد به الجهل عن مجاوراتهم، فغلب الوجوم على نفسه، وختم العي