في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة عبر عظمى ما تزال الأقلام والأفكار جاهدة في كشفها، والبحث عنها، وتجلية أسرارها
ومن هذه العبر التي ينبغي أن يلتفت إليها المسلمون وينتفعوا بها، ما نجعله اليوم مساق الحديث وموضوع المقال
كان للهجرة في التشريع الإسلامي أثر معروف مذكور، ولهذا الأثر ناحية دلالة وإرشاد، ربما كان القول فيها جديداً، والبحث عنها مفيداً
فأما الأثر المعروف المذكور، فهو أن القرآن الكريم ظل ينزل بمكة ثلاثة عشر عاماً لا يعرض فيها إلا إلى أصول الدين، وقواعد الأيمان، وبرهان التوحيد، ومحاسن الأخلاق، يريد بذلك أن يقتلع ما كان للعرب من العقائد الفاسدة، والأخلاق المستنكرة، ويزيل ما في نفوسهم من شبه في إرسال هذا الرسول إليهم على فترة من الرسل، وظلام من الشرك، وإغراق في الجهل، وجمود على تقليد الآباء والأجداد ولو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون!
ولا يكاد يعرف أن القرآن الكريم عني في هذه الفترة إلا بهذه الناحية يضرب لها الأمثال، ويقص لها القصص، ويحشد لها الآيات البينات، فإذا عني بغيرها فإنما يعني بما كان من سبيلها من التشريع الذي له صلة بحماية العقيدة والحفاظ على أساس الدعوة
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جعل القرآن ينزل بياناً للعبادات والمعاملات والنظم وأحوال الناس، وجعلت آياته تترى في تشريع كل ما يتصل بحياة الفرد والجماعة من المواريث والوصايا والزواج والطلاق والقضاء والجنايات والحدود والجهاد وغير ذلك
هذه السياسة التي ساس بها القرآن أمر الإسلام في مكة والمدينة، وأخذ بها المسلمين في سبيل التمكين لهم، والتثبيت لسلطان دينهم، سياسة ظاهرة الرشاد، مضمونة النجاح، متفقة مع نظام التدرج الطبيعي الذي أخذ الله به جميع الكائنات فما كان الله ليدع الناس فيما هم عليه من رجس وعبادة أوثان وتقاطع وتدابر وحروب وفتن وسفك دماء، ثم يدعوهم فجأة