اختفت شمس مكة وراء الأفق الساجي ساحبة ما تبقى من أشعتها الذهبية على قمم الجبال الشامخة، وعلى صدور الهضاب المتموجة، بعد أن لبثت نهارا كاملا تبعث الدفء والنور والحياة، وغام الأفق في مكة وبدأ ينتشر فيها الظلام، وما هي إلا لحظات حتى لفّها الليل بردائه الحالك وظهرت الكواكب في سمائها تلتمع خافقة واجفة، تزيّن تلك السماء الرحيبة الواسعة كما تزين الأوسمة الفضية الثمينة صدر القائد الكبير؛ وأوى الناس إلى دورهم يستنشقون فيها نسيم الراحة بعد تعب النهار الطويل، ويفيئون فيها إلى الدعة والسكينة بعد صخب النهار الشديد، وبدأت أضواء المصابيح الخافتة في الليل الأسود كأنها رقع في ثوب أو دنانير في جيب
وعمّ جبل أبي قبيس سكون رهيب، وصمت بالغ، وامتد (الصفا) في ذروة هذا الجبل رحيباً واسعاً باسماً جميلاً، يتمشى مع (المروة) جنبا إلى جنب، يحضن بضع دور قامت على جانبيه هي دور نفر من أهل مكة رغبوا عن سكنى مدينتهم التي تعجّ بالآهلين، فأحبوا الانطلاق إلى الفضاء الواسع، إلى الطبيعة الفاتنة، إلى النسيم الصافي العليل، فلم يلفوا خيرا من جنبات الصفا يلقون فيها عصيهم، ويبنون بها دورهم، ويحيون فيها حياة هادئة سعيدة
وكان الناظر إلى هذه الدور القليلة المنثورة هنا وهناك على أرض الصفا، يستقر بصره على دار قد نأت قليلا وانفردت، دار متواضعة صغيرة شيدت بالطين والقصب، وأحاطت بها الرمال الدكناء والصخور الجرداء، لا يشك أنها دار الأرقم بن أبي الأرقم ذلك الرجل العربي الذي كان يعيش من نتاج ناقته من اللبن، ومحصول أرضه من الشعير، لا يعرفه إلا نفر قليل من صحابه، ولا يدري بوجوده إلا أفراد معدودون من أهله
كان الأرقم مغمور الذكر، مجهول الاسم، يحيا كأكثر رجال قومه حياة ساذجة بسيطة فارغة متشابهة، هي بحياة الحيوان أشبه، يقضي نهاره في جمع الماء والحطب وسقي الزرع واستدرار النوق والأغنام، ويقضي ليله بين أهله يحدثهم ويحدثونه ثم يستلقي نائما حتى الصباح