وقد كان من الممكن أن تظل حياته سائرة على هذا النمط ثم يموت فلا يدري به أحد، كما مات كثير من قومه فمات معهم ذكرهم، وقد كان من الممكن أن تبقى داره متواضعة حقيرة لا يعرفها أحد ولا يهتم لها إنسان، لولا أن الله سبحانه أراد لحكمة بالغة أن يجعل اسم الأرقم في فم الزمان، يتألق في التاريخ الإسلامي كما تتألق الدرة الثمينة في القصر الفخم العظيم، وأن يجعل تلك البنية الخاشعة الصغيرة المشيدة بالطين والماء، منبع حضارة هدت العالم، ومنبثق دين ساد الكون. . . كانت الدار الحقيرة كأمثالها من دور العرب في زمن الجاهلية الجهلاء، يقطنها عربي جاهلي ساذج مع أمه العجوز وزوجه الشابة وصغارهما، يحيون حياة بدوية بسيطة، لا تمت بنسب إلى الحياة الفخمة المعقدة ذات التكاليف والواجبات الثقيلة، أكان يدور بخلده أن حياته ستقلب رأسا على عقب؟ أكان يحلم أن داره ستصبح في يوم قريب أعظم مجلس نيابي قام على الأرض؟ أكان يظن أن شمسا ستشرق من داره فيعم نورها أرجاء الأرض ويحيا بها العالم؟. . .
خرج صباح يوم من داره يجول جولة بين قومه على عادته، يتسقط الأخبار، ويصغي إلى الهمسات والأحاديث. . . فسمع نفرا منهم يتحدثون عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، حديثا أثار اهتمامه، فأصغى إليه بكل جوارحه، ولاح له من كلامهم أن دعوة جديدة سيئة منكرة يقوم بها هذا الرجل، وبدت له شناعة هذه الدعوة وقبحها من كثرة الشتائم التي سمعها تنهال على صاحبها، فأكبر الأمر، وهاله أن يكون في قومه من يبتدع منكراً من القول يلفت به الناس عن دين آبائهم وعاداتهم وأخلاقهم، وصمم ليفتشن عن محمد، وليجتمعن به، وليسمعن كلامه الجديد. . . ومشى ذاهلاً يتملكه العجب من هذا الذي سمعه، وهو يعرف (الأمين) أحسن قومه خلقاً وأطهرهم نفساً وأبعدهم عن المفاسد والمعاصي، وأكثرهم أدباً وعقلاً ورزانة وحلماً وعفافاً، وأصدقهم، وأرقهم قلباً وأكثرهم عطفاً على المساكين والأطفال واليتامى والبائسين. . . إنه لا يعرف رجلا أطهر ولا أشرف ولا أكرم ولا أصدق من محمد. . . إن قومه لم يعرفوا له كذبة واحدة، ولم يستطيعوا أن ينسبوا إليه عملا سيئا قبيحا واحدا، فما الخبر؟ وما هذه الدعوة الجديدة؟!
وسار الأرقم، وظل سائرا، وهو يسأل الناس الذين يلقاهم عن محمد، حتى دل عليه، ووصل إليه؛ فرآه في جماعة من قومه يدعوهم ويحدثهم، فجلس لا يشعر به أحد، وأصغى،