للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[محمد]

لتوفيق الحكيم

وهذا كتاب آخر قد نسقه فن آخر، ليعين رواجح الأحلام على اجتلاء، شخصية سمت ببطولتها عن البيان، واكتناه سيرة جلت بقداستها عن الفهم. وشخصية الرسول الكريم وسيرته أصبحتا اليوم في الشرق والغرب موضوع الدرس المفصل، وموضع التحليل العميق. وأنى للبصر المحدود أن يدرك ما لا يحد؟ وللبصيرة المتناهية أن تبلغ ما لا يتناهى؟!

حاول هيكل تعريف هذا الإشراق الإلهي من طريق العقل فأتخذ الدليل، وحاول طه حسين أن يصوره من طريق القلب فأصطنع الأسطورة، وحاول توفيق الحكيم أن يمثله من طريق الغريزة فأستعمل الحوار، والحوار ولاشك غريزة الحياة وأسلوب المجتمع، تجري به الحوادث، وتنتقل عليه الأحاديث، وتتردد فيه المآرب، وتوشك لغة الخطاب لا تعرف من ضروب الكلام غيره. هو لسان الوجود اليومي، يترجم عن رغائب النفس في غير كلفة، وينقل عن سوانح الذهن من غير إجالة، وينم على مرامي الهوى في نبرات الصوت، ويكشف عن طوايا الصدر في لحن الكلام، ويشف عن أحاسيس الروح في لهجات الحديث، ثم يصطبغ بصبغة الزمان والمكان والموقف والمناسبة؛ فإذا أنت سجلته بالحق أو مثلته بالصدق، فقد صورت الوجود المعدوم أكمل صورة، وجلوت الماضي المبهم أتم جلاء؛ ولكن تسجيل الحوار على عمومه عمل من وراء الإمكان ومن فوق القدرة، فقصارى جهد الإنسان أن يروي معناه بالسند فيكون التاريخ، أو يموهه بالخيال فتكون القصة، أو يزخرفه بالوهم فتكون الأسطورة. أما تمثيله على النمط الذي جرى عليه فهو الفن المبدع الذي يمده الإلهام وتهديه الطبيعة. يجرد الحادث من فضول الرواية ونافلة الحديث فيرده إلى جوهره ويحيله إلى بساطته، ثم يبعث الأشخاص، ويجدد الأمكنة، ويعيد الملابسات، ويحيي البيئة، ويرجع بالقارئ إلى عصره، فيحيا حياته، ويعايش أهله، فيرى بعينه ما يعملون، ويسمع بأذنه ما يقولون، ويدرك بنفسه موانع الحال ودوافع الموقف؛ وذلك ما عمله توفيق الحكيم في كتابه الجديد (محمد): عمد إلى المواقف الخطيرة في حياة الرسول، والمواقع العظيمة في تأريخ الرسالة، فمثلها على الوضع الذي كانت عليه، بالعمل الذي حدث، وبالحوار الذي

<<  <  ج:
ص:  >  >>