جرى، وبالروح الذي انتشر، ثم صور البواعث النفسية التي أغفلها المؤرخ، وأظهر الألوان المحلية التي أحاطها الزمن، فاتصلت الأسباب، استبانت العلل، وتحددت الفروق، ووقع الأمر من حك موقع المألوف من غير التواء ولا فلسفة. أقرأ في كتاب توفيق الحكيم موقعة بدر أو حديث الأفك أو وفاة الرسول، ثم أقرأها في كتاب من كتب التاريخ تجد ما قلته لك قد صار أوضح في المثال وأوكد بالموازنة.
لم يرد توفيق الحكيم أن يجعل من سيرة الرسول رواية؛ فإنه لو أراد ذلك لما سلم من لوم رجل الدين، ولا برئ من نقد رجل الفن؛ إنما هي مناظر مجلوة على أسلوب الحوار لا يجمعها قانون الوحدة، ولا يربطها تسلسل الزمن. ولقد ظهر هذا النوع أول ما ظهر في (الرسالة) حين اقترحت على الأستاذ الحكيم أن يكتب على طريقته هجرة الرسول في أول عدد من أعدادها الممتازة؛ فتهيب الأمر بادئ ذي بدء، ثم تخوف المتزمتين أن ينكروا عليه فعله، ثم أقدم فعالج الموضوع في حذر وحيطة، ثم ترقب ما يكون من رأي الناس، فإذا هم يقرءون في لذة ويحكمون في نزاهة، فمضى بعرض جوانب السيرة هذا العرض الواضح في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة طوى عليها هذا الكتاب. والأرجح أن هذا الأسلوب سيجد مكانة في تأريخ الأدب المعاصر، فإن شاعراً من شعراء مصر نحا نحوه في مقتل حمزة، وكاتباً من كتاب الشام حذا حذوه في موقعة بدر.
هذه كلمة عجلى كتبناها عن طريقة الكتاب على قدر ما أتسع المكان والوقت؛ وفي أكثر المناظر منه مواقف للإعجاب وفي أقلها مواقف للإعجاب وفي أقلها مواقف للمؤاخذة، وسيقف الناقد النزيه منها موقف العاذر أو العاذل على حسب رأيه في الفن وحريته. ولست اليوم بسبيل الكشف عن سر الكتاب وفنه، إنما هي تقدمة وتحية؛ وسنقرأ عنه ثم تقرأ في باب النقد أو في باب الكتب.
وبعد فإن للرسالة أن تغتبط بتفوق الله فيما تجاهد له، فلقد كان لها نصيب منتج في توجيه الأدب العربي الحديث في مصر وفي غير مصر إلى هذه الغاية العليا. كان أدبنا منذ قليل يتخلق بغير خلقه، ويتزيا بغير زيه؛ يرد المنابع البعيدة ونهره قريب، ويستجدي الأنامل الكزَّة وخيره عمم، حتى جف ما بينه وبين أصله، وانقطعت الأسباب بينه وبين أهله، فأصبح اليوم بفضل هذا التوجيه الحميد موصول الحبل بماضيه، معقود الرجاء بمستقبله،