(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع ١٩٣٥
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ علي الطنطاوي
- ٢ -
تركنا الموكب، وقد وقف في ظاهر دمشق، حول قبة (العسالي)، وقد ملأت وفود المودعين تلك الساحة على رحبها، وقام الخطباء يخطبون، وقُمت أشكرهم باسم الراحلين وأودعهم، وأشرح الغرض من هذه الرحلة. وكانت الشمس قد جنحت إلى الغيب، فزاد شحوبها الموقف رهبة وجلالاً، وأقبل الناس علينا يودعوننا؛ فلم تكن ترى إلا عناقاً أو تقبيلاً وإخلاصاً متجلياً، وحباً وعطفاً، فلم يبق من الناس من لم تسل عبراته. . .
وإن أنس لا أنس مشهد لحفيد زكي آغا سكر من وجوه الميدانيين، ورفيقنا في سفرنا، وقد تعلق به لا يريد فراقه، ويبكي فيبكينا؛ فما كان أبلغ من بكاء الطفل الحفيد، إلا بكاء الجد الشيخ، وما تركه حتى انتزعوه منه انتزاعاً، وإن صوته ليرن في آذاننا ينادي: جدي جدي.
وغادرنا دمشق، وكان الليل قد أسدل ستائره على الكون، وما زلنا ننأى عن هذه الجموع الهاتفة لنا، الداعية بالتوفيق والنجاح، ونبتعد عن هذا الحشد، حتى أبتلع صوته الليل وطواه سكونه، وغلب سواد الجمع في سواده الشامل، ولم يبق من حولنا إلا السهول الفيح. . .
وكان صمت بليغ، فلم ينبس واحد منا، واستسلمنا جميعاً إلى عواطفنا وأحلامنا، وقد هاجها موقف الوداع، وأثارها هذا المستقبل المجهول الذي نقدم عليه، وهذه الصحراء المرعبة التي نسعى إليها، وهذه البقاع المقدسة التي نقصدها. وكنا نتلفت بين الفينة والفينة، فنملأ العين بمرأى أضواء (المهاجرين)، وهي تسطع على نفوسنا المظلمة، كما تسطع النجوم الهادية في الليلة الداجية، على الضال الحائر؛ ولم نكن ندري، أنعود إليها فنراها كرة أخرى، أم ستأكلنا الصحراء فيكون ذلك آخر العهد بها؟ وكنا نحدق فيها لننقش صورتها في نفوسنا، حتى نأنس بها في ليالي البعاد، ونذكر فيها آخر آية من آيات دمشق (البلد الحبيب).