وكانت السيارات تسير متعاقبة يكاد ينوء بها ثقل ما تحمل وكانت تحمل فوق طعامنا والشراب الفرش والخيام، والقدور والطباق، ومائتي (صفيحة) بنزين، وعدداً هائلاً من آلات السيارة وأدواتها، وراديو (رادْ) وغير ذلك مما نسيته الآن، فكنا نعوّذها بالله، ونرجو لها التوفيق، وليس فينا من يتحدث أو يتكلم إلا قائلاً كلمة، وسامعاً جواباً، ثم يرجع الصمت حتى طلعت علينا أضواء أذرعات (درعاً) قصبة حوران. . .
بلغنا أذرعات (درعاً) عقب العشاء. فلبثنا فيها ريثما نظروا في جواز سفرنا وريثما صلينا. وأذرعات اليوم بليدة جميلة ذات قسمين - قسم جديد منظم بني على المحطة، وقسم قديم ينأى عنه قليلاً - وفيها سوق كبيرة، وأبنية جديدة، وهي قديمة ذكرتها العرب في أشعارها لأنها - كما قال ياقوت - لم تزل من بلادها في الإسلام وقبله، وأنشد لبعض الأعراب:
ألا أيها البرق الذي بات يرتقي ... ويجلو دجى الظلماء ذكرتني نجدا
وهيجتني من أذرعات وما أرى ... بنجد على ذي حاجة مدنف بعدا
وذكرها أمرؤ القيس، وعد ياقوت جماعة من العلماء خرجوا منها، وليس فيها الآن من العلماء أحد (فيما نعلم) يذكر. وعالم حوران وفقيهها اليوم الشيخ التقي الصالح الشيخ الطيبي الدمشقي وهو فوق التسعين، وهو بقية السلف الصالح - وفارقنا أذرعات نسير شرقاً إلى بصرى بعدما هتفنا بآل المقداد أعيان وجوهها ننبئهم بوصولنا، فلم نبلغ نصف الطريق إلى بصرى حتى رأينا أضواء كثيرة ومصابيح تجيء وتروح، فعجبنا أن يكون في البرية مثلها، ودنونا منها فإذا هي أضواء المستقبلين الكرام، هجروا مضاجعهم وأقبلوا يتلقوننا من نصف الطريق. فحيونا ومشوا بين أيدينا يهزجون الأهازيج البدوية حتى بلغنا بصرى.
ولبصرى ذكر في التاريخ مستفيض، ومجد مؤثل، وفيها كثير من آثار الماضي، ولم أكن قد دخلتها من قبل، فما أستطعه رؤيتها في الظلام، ولم ألمح من آثارها إلا صفين من الأعمدة الضخمة، قائمين عند مدخل البلد، على طرفي الطريق الذي سلكناه إلى منزل آل المقداد حيث رأينا الكرم الذي لا كرم بعده.
وبصرى مذكورة في الشعر قديماً وحديثاً، ولكنهم لم يذكروها إلا ليذكروا نجداً، ويعلموا شوقهم إليها، وكأنهم لم يروا فيها ولا في الغوطة ولا في وادي بردى ما ينسيهم تلال نجد