يا سادتي ويا سيداتي. كنت راكباً أمس في الترام، أفكر في موضوع أتحدث به إليكم، فأسليكم وافديكم، فلا يكون الحديث لذيذ بلا نفع، ولا نافعاً بلا لذة، فكان يطير الموضوعات من رأسي، هواء بارد يلفح الوجوه، فيبلغ منها مثل ما تبلغ السياط، فقمت إلى الباب لأغلقه فاستعصى علي، فشددته فتأبى فجربت فيه الوسائل فما أجدت، فتركته وقعدت. وصعد شاب مفتول العضل، عريض المنكبين، بادي القوة، فجذبه فما استطاع فأمسكه بكلتا يديه، ووضع قوته كلها في ساعديه، حتى احمر وجهه وانتفخت أوداجه، والباب على حالة، فأغضى بصره حياء منا أن ينظر في وجوهنا وقعد. وركب بعده شيخ وكهل وامرأتان، لم يكن فيهم إلا من جرب مثلما جربنا، وخاب كما خبنا. . .
فلما رأيت ذلك، قلت مقالة أرخميدس في أول الدهر:(أوريكا)، وجدت الموضوع إني سأجعل موضوع حديثي (في الترام)، فالترام يا سادة معرض الناس، ومرآة الأمة، وهو مسلاة لمن نشد تسلية، ومدرسة لمن أراد استفادة، وهو سينما أبطالها أناس صادقون، لا (يمثلون) رواية وضعها كاتب، ولكن يعرضون فطرهم التي فطرهم الله عليها، وأخلاقهم وطباعهم وكل صغيرة (في الترام) تمثل كبيرة في الحياة: هذا الباب المغلق مثلاً عنوان فصل كبير من فصول حياتنا، ونقص في تربيتنا، إذ ربما كان دفاع الباب اقل من قوة اثنين منا، ولكنا أتيناه متفرقين، كما نفعل في كل أمر نرومه، وإصلاح نطلبه، نعمد له فرادى، ونقصده أشتاتاً، فلا نصل إلى المقصد، ولا نبلغ غاية، قد استقرت (الفردية) في سلائقنا، فترى الواحد منا يعمل ما لا تعمله الجماعة، فإذا اجتمعنا أضعف بعضنا بعضاً، أو استبد بعضنا ببعض، وإذا نحن أردنا التخلص من هذا، قفزنا من أول الخط إلى آخره، فجاوزنا حد الاعتدال، وتعدينا نطاق الممكن، وأردنا أن نبني الدار قبل أن نعد الحجارة، ونصلح الأمة قبل أن نصلح الأفراد، كأن الأمة مخلوق مستقل، له طول وعرض وعمق وارتفاع. لا يا سادة، ما الأمة إلا أنا وانتم وهم وهن، فإذا لم يصلح كل منا نفسه لم يكن للامة صلاح.